تُمثل السيرة النبوية الشريفة الأنموذج الإنساني المتكامل الذي يشتمل على كثيرٍ من المعاني والمضامين والدروس التربوية التي اعتنى بعض الباحثين في مجال التربية الإسلامية بتسليط الضوء على أجزاءٍ متناثرةٍ منها؛ والتي لا يزال هناك الكثير مما لم يُتعرض له منها بالبحث والدراسة، فهو بذلك موضوعٌ في حاجةٍ ماسةٍ لأن يحظى بالاهتمام والعناية التي يستحقها.

ولعل مما يلفت النظر إلى أحد المضامين التربوية في كثيرٍ من الأحاديث النبوية الشريفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص (كما توضح ذلك بعض الأحاديث الصحيحة) على وضع يده الشريفة على بعض المواضع المؤثرة في الجسم البشري لمن كان يتعامل معهم من أصحابه (رضوان الله عليهم) في مناسباتٍ مختلفة، فيكون لتلك الملامسة النبوية الحانية آثارها التربوية الإيجابية الفاعلة التي تشمل جميع جوانب النفس الإنسانية المختلفة.

ولأن هذا الجانب التربوي على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية في حياة الإنسان المسلم فإن من الضروري أن يُشبع بحثًا ودراسةً واستقصاءً، ولاسيما أنه قد أشار إلى أهمية هذا المعنى بعض علماء السلف، حيث ذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه العظيم (فتح الباري)، في باب (وضع اليد على المريض)، بعضًا من فوائد وضع اليد على جسم المريض، وفي ذلك يقول:

" قال ابن بطال: في وضع اليد على المريض تأنيسٌ له، وتعرُّف لشدة مرضه ليدعو له بالعافية على حسب ما يبدو له منه، وربما رقاه بيده ومسح على ألمه بما ينتفع به العليل إذا كان العائد صالحًا " (ص 126).

وهنا تجدر الإشارة إلى أن من أبرز المضامين التربوية في هذا الشأن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يضع يده على من يتعامل معهم عبثًا، وإنما كان يضعها لهدفٍ وغايةٍ مقصودة لما يعلمه صلى الله عليه وسلم من أن في تلك الملامسة نفعًا وفائدةً للإنسان، ولأنه قد يترتب عليها حصول بعض الطمأنينة والهدوء النفسي، ولذلك فإن المتأمل لهذا الأمر يجد حرصه صلى الله عليه وسلم على ملامسة مواضع محددة من الجسم، وبقليلٍ من التركيز يمكن أن يتضح أن هناك موضعين رئيسيين في الجسم كان صلى الله عليه وسلم غالبًا ما يحرص على وضع يده الشريفة عليهما أكثر من غيرهما، وهما: الرأس (الناصية)، والصدر. ولعل ذلك راجعٌ إلى أن في ملامسة الرأس دلالةٌ على أهمية الجانب العقلي في شخصية الإنسان، والرأس يُمثل هذا الجانب في الغالب، وأما ملامسة الصدر ففيها دلالةٌ على الاهتمام والعناية بالجانب الوجداني الذي تُمثله في الإنسان العواطف والمشاعر.

وليس هذا فحسب؛ فإن المتتبع للنماذج القولية والفعلية والتقريرية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمتأمل لأحداث سيرته النبوية الشريفة ومواقفها التربوية سيجد فيها كثيرًا من المضامين والمعاني التربوية التي تؤكد هذه الرؤية أو تُضيف إليها، ولاسيما متى تمت الإفادة في هذا الشأن من الجوانب العلمية التجريبية ذات العلاقة بهذا الشأن كدراسات المجال المغناطيسي، حيث أثبتت بعض الدراسات العلمية أن كل شيء في الوجود له مجال مغناطيسي سواءً في الجماد أو النبات أو الحيوان. فهل يمكن أن نسعد في مستقبل الأيام بعناية المختصين بهذا الجانب التربوي الهام؟ وهل ستتوجه الدراسات التربوية في جامعاتنا للاهتمام بمثل هذه الجوانب التي تهم حياة الفرد والمجتمع؟

إنها دعوة للتأمل في هذا الأنموذج التربوي النبوي الذي يُمثل كل معالم الإنسانية الخيِّرة التي يمكن متى طبقت في واقع الحياة أن يترتب عليها اطمئنان نفسي، وشعور بالقبول والرضا الاجتماعي، ولاسيما بين الوالدين والأبناء، والمعلمين والطلاب، والأزواج و الزوجات، وغيرهم. والله الهادي إلى سواء السبيل.