في مقالي السابق الذي نشر على صفحات هذه الجريدة الغراء بتاريخ الخميس 11 أغسطس 2011 تحدثت عن التلوث الطبيعي لمياه الآبار بعنصر الزرنيخ في العديد من دول العالم خاصة تلك الواقعة على الحزام الصحراوي الذي يلتف حول كوكبنا الأزرق بين خطي عرض 12 شمالا إلى خط عرض 32 شمالا، وأوضحت أن جزيرة العرب تقع داخل هذا الحزام الصحراوي، لذا فليس من المستبعد تماما أن تكون آبارنا أيضا ملوثة بعنصر الزرنيخ، فالنظام البيئي لجزيرة العرب ما هو إلا جزء لا يتجزأ من منظومة النظام البيئي العالمي، وهناك الكثير من الشواهد تؤكد ما ذهبت إليه، ومن هذه الشواهد التلوث الذي تشهده المياه الجوفية في مدينة المهد نتيجة لعملية التنقيب عن الذهب والذي أكدته العديد من الجهات العلمية في المملكة، ومن هذه الشواهد أيضا التي تؤكد ما ذهبت إليه التلوث القاتل والمدمر للمياه الجوفية في منطقة المدينة المنورة بالعناصر الثقيلة وعلى رأسها عنصر الزرنيخ والذي ذهب ضحيته العشرات في منطقة حمراء الأسد، ومن هذه الشواهد أيضا تلك التقارير السرية الخطيرة عن معدلات انتشار داء السرطان في المدينة المنورة التي تجاوزت جميع الخطوط الحمراء! و أكاد أجزم أن المتسبب الأول في جميع هذه الكوارث هو تلوث مياه الآبار، سواء كان مصدر هذا التلوث طبيعيا أو صناعيا، و في هذا الشأن كم كنت أتمنى أن يكون لدى الجهات الحكومية ذات الاختصاص، مثل وزارة الصحة أو وزارة الزراعة أو الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة قاعدة معلومات تشمل جميع الآبار المنتشرة في المملكة العربية السعودية، تمثل مرجعا لتاريخ كل بئر في المملكة، وتعنى بدراسة خصائص مائها الحيوية والكيميائية والفيزيائية، ومعالجة ما هو ملوث منها، وهذا يمثل نقطة البداية في حماية المواطنين من تلوث مياه الآبار. ومن الثابت والمتفق عليه علميا أن التلوث بالعناصر الثقيلة وعلى رأسها التلوث بعنصر الزرنيخ من أكثر أنواع التلوث خبثا وخداعا، فلا نشعر بضررها عندما نتعاطاها، فهي مع مرور الوقت تتراكم في أجسامنا دون أن نشعر بها إلى أن يصل تركيزها في أنسجة أجسامنا إلى معدلات لا يستطيع الجسم تحملها، وهنا يحدث ما لا تحمد عقباه، فهذا النوع من التلوث كما يقال عنه بالبلدي يتمسكن حتى يتمكن!! لذا يطلق عليها اسم القاتل الصامت!!
مصادر التلوث بعنصر الزرنيخ عديدة وتقسم عادة إلى قسمين مصادر ناشئة من أنشطة الإنسان ومنها التلوث بمياه الصرف الصحي، صناعة الجلود المبيدات الحشرية، صناعة الدهانات، على أن أهم الأنشطة الإنسانية المساهمة في تفاقم ظاهرة التلوث بعنصر الزرنيخ هو التنجيم أي التنقيب عن المعادن، وهذه مشكلة خطيرة يعاني منها سكان مهد الذهب، وفي مكة المكرمة كان من الطبيعي أن تتلوث مياه زمزم بعنصر الزرنيخ، نتيجة للتغير في تركيب طبقات الصخور الحاملة لعنصر الزرنيخ Arsino-Pyrite الناجمة عن أنشطة الحفر والتفجير بمادة الديناميت وهذا أمر يطول شرحه، وعلى أي حال فهذه هي ضريبة التقدم العمراني الذي تشهده مكة المكرمة، والمشكلة لا أراها في تلوث مياه آبار زمزم ولكن المشكلة الحقيقية في تلوث الآبار الأخرى التي هي بمثابة المصدر الرئيسي لمأكل ومشرب العديد من سكان القرى والمناطق الزراعية، فاستخدامهم بصورة مستمرة لمياه هذه الآبار هو الذي يعرضهم ويعرض أطفالهم وأنعامهم للإصابة بتلوث عنصر الزرنيخ، أما شرب مياه زمزم فلا يحدث بصورة مستمرة لذا فنسبة الإصابة بتلوث الزرنيخ غير محتملة!! وهذا للأسف لم يتعرض إليه الإنجليز في تقاريرهم عن مياه زمزم، وأنا شخصيا أصدق ما ورد في تحليلهم، ولكن هل هذه المياه تمثل خطرا على الصحة؟ هذا ممكن حدوثه عند توفر شرطين الشرط الأول: استخدام هذه المياه بصفة مستمرة، الشرط الثاني: عندما تتجاوز نسبة تركيز الزرنيخ في المياه أكثر من 100 جزء في البليون، هنا يمكن أن تحدث الإصابة حتى لو لم تستخدم مياه زمزم بصورة مستمرة ويطلق على هذا النوع من الإصابة إصابة حادة!! ومما يجدر ذكره أن معالجة مياه الآبار الملوثة بعنصر الزرنيخ أصبحت في متناول اليد وبتكلفة مادية زهيدة.
وفي هذا المقام أحب أن أوضح بعض الأمراض التي يسببها التلوث بعنصر الزرنيخ، فقد أثبتت الدراسات والأبحاث العلمية أن التلوث بعنصر الزرنيخ يتسبب في العديد من الأمراض منها تغير لون البشرة والإصابة بسرطان الجلد، كما يتسبب في نقص المناعة والفشل الكلوي وتشوه الأجنة والقصور الجنسي.. إلخ، كما أثبتت العديد من الدراسات الحديثة العلاقة الوثيقة بين ألإصابة بداء السكري Diabetes والتلوث بعنصر الزرنيخ وهذا ما أوضحه الباحث الدكتور كالتريدر وآخرون عام 2006 (Kaltreider et, al 2006) وهذا أيضا ما ذهبت إليه الباحثة الدكتورة كيلي رينولدس (KellyReynolds) عام 2009 في بحث نشر لها في جريدة آفاق الصحة البيئية(Environmental healthperspective)، فهل نسبة ارتفاع داء السكري الكبيرة المنتشرة بين المواطنين السعوديين تعود إلى التلوث بعنصر الزرنيخ خاصة بين أولئك الذين يعتمدون في مشربهم على مياه الآبار، إجابة هذا السؤال تكمن في الكشف عن عنصر الزرنيخ في بول المواطنين السعوديين خاصة أولئك الذين يعتمدون على مياه الآبار، ونحن الآن نتحدث فقط عن عنصر الزرنيخ ولم نتطرق إلى العناصر الكيميائية الثقيلة الأخرى الموجودة في نظمنا البيئية، والموضوع أكثر تعقيدا مما تناولته في هذا المقال، ويا خفي الألطاف نجنا مما نخاف.