هاجم بعض الدعاة، القائمين على مسلسل "طاش ما طاش"، واتهموهم بأنهم يستهزئون بالدين وذلك لتعرضهم للمشايخ والعلماء والقضاة بالتهكم والسخرية.

وبالرغم من أهمية النقد والرد على ما تطرحه الدراما السعودية من قضايا ومشاكل اجتماعية، لأن الاختلاف يؤدي إلى الحركة والتطور في المجتمع، ولكن المهم أن يقوم هذا الاختلاف على أساس مبدئي لا شخصي. والمجتمع المتحرك هو الذي يحتوي في داخله على تيارين متضادين على الأقل، يدعو كل تيار إلى مبادئ ومفاهيم مختلفة عن الآخر، فأي اختلاف بين هذين التيارين في أي مجتمع هو بمثابة القدمين اللتين يمشي بهما، ولا يمكن تصور أن المجتمع يمشي بأقدام مربوطة ومتلاحمة كما يقول علماء الاجتماع.

والأهم من ذلك كله، أن يتم تناول القضايا التي تم طرحها بشيء من الجدية وتحت إطار النقد الهادف، بعيداً عن الشتم والإقصاء، والتركيز على المشكلة نفسها، لطرح الحلول اللازمة لمعالجتها حتى يستفيد منها المجتمع والوطن.

وعلى هذا الأساس، تتناول هذه المقالة بعض القضايا المطروحة في مسلسل "طاش"، بشيء من التحليل والمناقشة لبعض الآراء المتعارضة حولها، مع التطرق إلى المشاكل التي يواجهها الناس على أرض الواقع، وذلك على النحو التالي وباختصار شديد:

1) تعرضت إحدى الحلقات لموضوع فساد أحد القضاة وتلقيه الرشاوى، وهذا الموضوع يقودنا إلى مسألة مهمة وهي(من يراقب القاضي؟)، صحيح أن هناك إدارة مختصة تسمى إدارة التفتيش القضائي، وهي مسؤولة عن التحقيق مع القضاة وتأديبهم، ولكن ماذا عن الاستقلالية والرقابة الداخلية والاجتماعية والإعلامية على القضاة؟، أليس من المهم دراسة هذا الموضوع للوصول إلى أفضل الحلول المقترحة؟..هذا من جانب.

ومن جانب آخر يقول المعترضون على موضوع هذه الحلقة إن القائمين على المسلسل، تناولوا القضاة وأعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسخرية والاستهزاء، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: "وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ"التوبة65، وبالتالي فإنهم يستهزئون بآيات الله ورسوله باستهزائهم برجال الدين وأهله.

وبالطبع فإن هذا القياس الفلسفي ليس في محله، لأن الآية الكريمة في سياقها تتحدث عن المنافقين وأعمالهم الشيطانية لتثبيط المسلمين في المعارك، ولم يكن قصدهم التسلية كما يدعون، وإنما الفتنة والتشكيك في الدين والرسول لتحقيق أهداف سياسية.

وبالتالي فإن استنتاج الاستهزاء وإسقاطه على مسلسل فني كوميدي يحاول إيصال فكرة عن مشكلة موجودة فعلاً غير صحيح، كما أن هذا الرأي يؤدي إلى انعدام الرقابة سواء على القضاة وكتّاب العدل أو منسوبي هيئات الأمر بالمعروف وكذلك الأئمة ومؤذني المساجد. وليس هذا فحسب، فإن مثل هذا الأمر يؤدي إلى وجود طبقية في المجتمع، وفصل الدين عن باقي أفراد المجتمع بوصفهم للمجتمع "رجل متدين، وغير متدين"، مع أن الجميع بشر يصيبون ويخطئون، والجميع يدين بالإسلام، وليس هناك من هو فوق الأنظمة والقوانين.

وبناءً على ما سبق ينبغي التركيز على تطوير الخدمات القضائية والعدلية وتفعيل الرقابة عليها، بما يعزز الكفاءة الاجتماعية والاقتصادية لها.

2) تناولت بعض حلقات المسلسل الآثار الاجتماعية السلبية لقضايا مثل (الإرث، والطلاق، وتعدد الزوجات)، فأظهرت مشاكل واقعية تحتاج إلى إعادة النظر في بعض المسائل الفقهية والثقافة الاجتماعية وبعض القوانين المتعلقة بها، فمسألة الإرث عل سبيل المثال تناول المسلسل مسألة استئثار الرجل والوكيل الشرعي بأموال الورثة والمستحقين من خلال إخفاء المستندات والصكوك عنهم، وبالتالي فهناك مشكلة تتمثل في نقص المعلومات الثبوتية لأموال المتوفى، وأن هناك حاجة ماسة لوجود قواعد معلومات وحاجة إلى وجود توعية اجتماعية للناس في إثبات مستحقاتهم لدى الغير بالصور القانونية، بالإضافة إلى وجود حاجة إلى وجود صيغة قانونية تضمن استلام جميع الورثة لمستحقاتهم.

أما بالنسبة لمشكلة الطلاق وتعدد الزوجات فقد تناول المسلسل العديد من الآثار السلبية لها، من أهمها تعسّف الرجل في استعمال هذه الحقوق في ظلم المرأة، دون وجود إجراءات قانونية رادعة لهذا الظلم، مثل عدم النفقة وتعليق الزوجة وحق احتضان الأبناء، وهجر المرأة والتفريق بين الأبناء في حالات التعدد، لذا يجب حماية المرأة والأبناء من أي ضرر يقع عليهم بسبب الطلاق أو التعدد، فلا تمنع من نفقة ولا تضار بأي طريقة، ويتم ذلك باستصدار القوانين الكفيلة بمنع تعسف الرجل. وآمل أن تؤخذ في الاعتبار مثل هذه القضايا في خطط وزارة العدل وإستراتيجية تطوير القضاء في المملكة.

3) تحدثت في مقالة سابقة عن مسألة الفائدة البنكية والقروض، والتي تناولها المسلسل بالتحديد، وطالبت بإعادة النظر في هذه المسألة من خلال إجراء البحوث والدراسات حولها، ولكن البعض يرى أن المسألة محسومة وقد أجمع العلماء على تحريمها، ولكن أقول إننا نشهد في وقتنا الحاضر تشابك الاقتصادات العالمية والتطور الهائل في التقنية وتأثير المنافسة، وإدخال أدوات مالية أكثر تعقيداً، مما يوجد حاجة إلى وجود معايير محاسبية وبنكية أكثر عدالة. كما أطرح مسألة للفقهاء تتمثل في القيمة المستقبلية للنقود التي تستخدم في التخطيط للاستثمارات وتحديد التكاليف وكذلك في عرض القوائم المالية والاعتماد عليها في تحديد الزكاة الشرعية للشركات، فماذا عنها؟!

وخلاصة القول في النهاية أن ما تطرحه المسلسلات الفنية من قضايا ومشاكل اجتماعية سواء كانت في قالب كوميدي أو درامي، يجب تناوله بالنقد البنّاء من الناحية الفكرية وحتى الفنية، لما له من تأثير واضح على وعي المجتمع وإلقاء الضوء على مشاكله، بعيداً عن التشنج وثقافة السب والشتم والإقصاء، حتى لا تضيع الجهود المبذولة في حل هذه المشاكل مما يؤدي إلى تمييع القضايا من أساسها والدخول في مجادلات لا طائل منها سوى العداوة والبغضاء بين الناس.