من لا يعرف الجوع، ويكره وجهه القبيح؟ لقد قيل في الجوع الكثير من الكلام الذي لم يغير من واقعه حتى ولو قليلاً من الشيء. فقد بقي الجوعى جوعى وبقي الشباع شباعاً. إن التخيل المعنوي لقولي هذا هو أن الأمور بالنسبة لمضمون الجوع واقع كحقيقة لا جدال فيها عبر كل العصور، وإلى يومنا هذا. إذ لم يتغير شيء على الإطلاق. وكل ما حدث مع تغير الزمن هو تبادل المقاعد والأدوار بين الجوعى والشباع فقط. وهذه عملية احتيال يلعبها الجوع المراوغ تحت تأثيرٍ ما. وهذا المسمى بالجوع يملك عبقرية المراوغة والتحايل المدروس في أحايين كثيرة شهد عليها التاريخ. فالجوع في نظري أهم عبقري مر على كل العصور الإنسانية. إذ استطاع التغلب على كل خصومه. وهو أيضاً سلاح رفيقه وطعنته الأهم، وهو الذي لم يخذل زبانيته يوماً ضد خصومهم. ويشهد التاريخ على بشاعة وهيمنة الجوع وسطوته. وكذا قوة أثره وتأثيره على مسيرة الحياة، وتاريخ الإنسانية جمعاء. في الوقت الراهن كل المؤشرات والدراسات تقول بأن الجوع والجوعى في العالم يتركزان في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، وليس بالضرورة ألا يكون بشمالها جوعى أيضاً. لكنه على أية حال لا يقارن بذلك الذي في الجنوب. كما لا يمكننا القول بأن كل جنوب على مستوى الأوطان والدول جائع، وبتحريك بسيط لعينيك على الخارطة العالمية. ستدرك الأمر، فهو ليس بالمعقد. تقول تقارير وإحصائية المنظمات المعنية بهذا الجانب كمنظمة الأمم المتحدة، ومنظمة الغذاء والزراعة (FAO) إن عدد الجوعى في العالم قد تجاوز المليار نسمة في 2009م ثم تراجع إلى 925 مليوناً في عام 2010م، أي أقل بمقدار 98 مليون نسمة، وحذرت من عودة ارتفاع نسبة الجياع لهذا العام 2011م إلى رقم قد يتخطى المليار نسمة بسهولة، خاصة في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية الرئيسية. وأن سوء التغذية (Malnutrition) يقول بكارثة إنسانية وشيكة جداً. وإنه لمن العار أن تحدث المجاعات في القرن الواحد والعشرين.
في الواقع لم تفلح أية دراسة أو نظرية أو محاولة أجريت على مستوى العالم للتغلب أو القضاء على الجوع بوصفه مأساة البشرية المزمنة، أو حتى في تقليصه إلى نسب متدنية تبعث على الأمل. كما لم يسجل التاريخ نجاح أية تحركات دولية مبشرة أيضاً، حتى تلك الإقليمية منها. فقد سقطت كل النظريات التي ارتفع صوتها ذات ربيع في القضاء على هذا الغول الشرس. فالنظريات الماركسية مثلاً، وهي التي بنت أسسها على تأمل الحالة المزرية لواقع الإنسانية الاجتماعي، والتي قدمت نفسها من خلال الثورة الروسية في القرن التاسع عشر بما عرف بصيغة (بروليتاريا ماركس)، ثم تلاشت نتيجة تحول الدولة بذاتها ككيان إلى إقطاعي بيروقراطي كبير، يستغل ويضغط على الطبقة التي زعمت الماركسية بحماية حقوقهم (الفلاح المكافح والعامل البسيط). بدلاً من تكثيف الاهتمام بآلية تنفيذ نظريات الماركسية. وبالمقابل فقد اشتدت شراسة الرأسمالية من جانبها، لتقع المجتمعات البشرية بين كماشتي صراعات فكرية تريد تحقيق الانتصار لكياناتها المختلفة، وبأي شكل وثمن كانا. دون النظر للتبعات والمساوئ التي ستنتج لاحقا. وهكذا تفاقمت المشكلات واستشرت في جسد النسيج الاجتماعي الإنساني. بدلاً من تفعيل الحلول والأفكار والبحث عن المخارج. ولا يُعد انهيار نظريات الماركسية انتصاراً لنظام النظرية (الرأسمالية)، بقدر ما هو كارثة تتيح استحواذ وتفرد إقطاعي أكبر ضخامة على مقدرات العالم الجديد. فالرأسمالية أيضاً تسببت وبعمق في صنع وتوسعة فجوتي الفقر والجوع في العالم واستمرار توسعهما بطريقةٍ لا أخلاقية. ووسط تزايد الغضب العالمي من تردي الوضع الإنساني الاجتماعي. طرحت الرأسمالية ما أسمته بالحلول والبدائل، وتضغط بقوة باتجاهها لتضمن استمرار سيطرتها وامساكها بزمام الأمور عالمياً، وذلك من خلال طرحها نظرية العولمة التجارية. تحت مسمى ما يُعرف
بـ (The General Agreement on Trade in Service)
واختصاراً بالـ(GATS) أي (منظمة التجارة العالمية). وهي بذلك إنما تغلق الباب ولا تُبقيه موارباً أمام قيام أية نظريات اقتصادية قادمة قد تهز عرشها وتعجل بحتفها، لتلاقي نفس مصير النظرية الماركسية (الانهيار والتلاشي). وهذه في الواقع حيلة مكشوفة، ظاهرها مساعدة الاقتصادات النامية في العالم على النهوض والوقوف على قدميها، وجوهرها إذابة وتحويل الاقتصادات العالمية الصغيرة، إلى ما يشبه الفلاحين والعمال البسطاء الجدد، الخاضعين لسلطة الإقطاعي الأضخم وبذلك تستمر المأساة الإنسانية في توسعها، من خلال إدخال العالم إلى جحيم جديد، أقبح من (جحيم دانتي) قطعاً. ستكون أسوأ نتائجه ببساطة انتفاخ جيوب أغنياء العالم على حساب فقرائه. وبوضوح أكثر فإن (الأغنياء سيزدادون غنىً، والفقراء سيزدادون فقراً). فبأي طريقة يفكر هذا العالم؟ وإلى أي مصير تسعى الإنسانية؟