لا يوجد في الحرية قيمة مطلقة. حتى في المجتمعات التي تتشدق بقيادة – العالم الحر – يبدو سقف الحرية أدنى مما يتصوره إطار الانبهار الخادع. تفضح قصة هيلين توماس كذبة أمريكية هائلة. امرأة تناهز التسعين، بل ستحتفل به مطلع أغسطس القادم. ولأنها الأكبر سناً، فقد اختيرت عميدة صحافيي البيت الأبيض وواجهت حتى اللحظة سبعة من رؤساء أمريكا بأسئلتها المحرجة وصنفت على أنها الأجرأ على طرح الأسئلة الصعبة في تاريخ البهو الصحفي للبيت الأبيض. كانت – هيلين – حتى ما قبل الأمس من أعنف مؤيدي إسرائيل وكبيرة – لوبي – الصهيونية في ردهات إعلام منزل أمريكا الأبيض. ولثلاثة وأربعين عاماً متصلة كانت هيلين توماس تطرح من الآراء ما لا تؤمن به وتسافر مع الأسئلة عكس قناعاتها وتنحاز لإسرائيل لأن مجرد – عدم الانحياز – يعني باختصار نهاية اللقب والمنصب والرحلة. أسوأ أنواع كبت الحرية أن تجبر على قول ما لا تؤمن به وأن تظهر ما لا تضمر. نهاية الأسبوع الماضي، سرب أحد أصدقاء هيلين توماس – يقظة ضميرها – وهي تقول في مقطع تلفزيوني مسجل: إن إسرائيل دولة محتلة وإن الصهيونية فكرة عنصرية. ولأنها لم تكن تعتقد أن هناك من يلتقط رأيها فقد أجابت على سؤال صديقها أين تقترحين أن تذهب إسرائيل بالقول: يعودون من حيث أتوا. إلى بولندا وألمانيا وإلى هنا بالولايات المتحدة. ولأنها قالت رأيها الذي آمنت به سراً طوال هذه العقود فقد قامت أمريكا الرسمية ولم تقعد وكل القصة اختطاف لحرية فرد في أن يقول رأيه مثلما تتشدق أم الحرية. وبخها المتحدث باسم البيت الأبيض أمام ذات الحشد الصحفي وطالبها علناً بالاعتذار العلني. قال عنها إن ما قالته يفتقد للأدب واللياقة. حتى المتحدث الرسمي باسم الأسبق، جورج بوش الابن، تدخل على الخط ووصف هيلين توماس بأبشع الأوصاف حد التهمة بعدائها للسامية، وحد وصف رأيها بالإهانة لا لليهود وإسرائيل فحسب، بل لسود أمريكا ومهاجريها الإسبان لأنهم بمسطرة – هيلين توماس – يجب أن يعودوا لبلدانهم مثل ما هو مقترحها أن يعود اليهود حيث أتوا. نسي الفحل أن سود أمريكا لم يمثلوا أمريكا ولم يطردوا منها شعبها الأصل. اضطرت هيلين توماس للاستقالة استباقاً ألا تقال وكل القصة – رأي – تؤمن به ولم تستطع البوح به رغم قناعاتها إلا على بعد شهر من التسعين. هذه هي مسطرة الحرية.