يُخيّل للقارئ ـ في غير روايةٍ ـ لرجاء عالم، أنّه جالسٌ بين السطور التي يقرؤها، وأنه ـ على "دكّةٍ" مكّيّةٍ يتأمّل، ويكتشف علاقات التآلف بين متناقضاتٍ لا تكونُ إلا بلادا طليقة من ربقةِ: "هذه الأرض لنا"، حيث التوحّد الغريب بين أشخاصٍ لا يلتقون في أيّ مكانٍ، ولأيّ سببٍ، غير السبب المكّي النادر، وهو الأكثر وضوحاً في رواية "خاتم"، حيث يرى القارئ الزوايا والشخوص والأزقة المكيّة، ذات السّحر والعبق، ويمسح عينيه ببقايا مدينةٍ عتيقةٍ.. عتيقةٍ، حتّى ينبجس من روحه نورٌ عتيق، ليس له في الطبيعة نورٌ يوازيه.

رجاء تشعر بأن مكّة أصلٌ تنحدر هي منه، لا مكانٌ تدرج فيه، تقول: "مكّة المكرّمة هي بالنسبة إليّ مركز لحركة سحرية إبداعية، أعمل على إحيائه كوداع لمكة القديمة التي اندثرت الآن، مكة أمي وجدتي"..

أتساءلُ فقط؛ لماذا لم تقل: مكة أبي وجدّي؟

المكانُ هو سرُّ رجاء، وهو عندها متجاوزٌ لكونه مكاناً وحسب، إلى أن باتَ يشتملُ على غير معنى من معاني التّوق؛ سواء أكان هذا التّوق إلى الأماكن المفقودة بالابتعاد عنها، أم باندثارها، أم إلى الأزمنة المنقضية في الماضي، أم إلى الأزمنة المُستشرفة في المستقبل، أم إلى المجهول، وغيرها من العناصر التي تتداخل لتشكّل صورة مكّة في فضاءات رجاء عالم.

هذا التوق، وتلك التداخلات، جعل النصّ الروائي، عند رجاء عالم، عصيّاً على الناقد، مخيفاً عن محاولة المقاربة، لا يسلّم نفسَه للدرس بسهولة، بينما هو منقادٌ طيّعٌ بالنسبة إلى القارئ المستلذّ الباحث عن نصٍّ مطرّزٍ بالكثير من الرموز والأساطير، التي تحيلُ كلاً إلى ما يريد، دون أن تُجبر أحداً على إحالةٍ بعينِها.

رجاء مؤمنةٌ بأنّ الخوف هو العدو الأوّل للإبداع، وهي القائلة: "علينا أن ننسى المخاوف حتى نتمكن من إخراج الجانب الإبداعي في شخصياتنا"، ولذا فإنها لا تخاف إلا من قصور الإبداع، ولا تلتزم بالبنية التقليديّة المعروفة في الرواية، فتمزج أكثرَ من جنسٍ أدبي، مما يجعل من نصّها "فسيفساء" لغويّة رائعة، غير عابئةٍ بما قد يُقال من اختطاطها قوانينها الكتابية على غير مثالٍ سابق، إلا ما كان لها هي فقط، وما ذاك إلا لأنها لا تخاف.

رجاء التي تجاوزت المخاوف، تصرّ في كلّ "سرد" بانورامي الأجناس، على أن تهبَ المرأةَ عقلاً وفعلاً وقدرة، وهو نوعٌ من التحدّي للنمطي السائد، القائم على فكرة ذكورة العقل والفعل الإنسانيين.

رجاء التي لا تخاف، دعكت مرآتها الشعوريّة، حتى محت منها شيئاً اسمه الرقيب، ولذا انطلقت، وانطلقت، وانطلقت دون أن يفاجئها الليلُ ذو اللسان الهائل، وينهرها عن احتضان أيامها وأحلامها و"مكّتها"، تقول: "مفهوم الرقيب غير موجود في عالمي الكتابي، لو كان موجودا لما استطعت كتابة حرف واحد، لا رقيب ضمن مفاهيمي في الكتابة"، وما ذاك إلا لأنها لا تخاف.

هذا اللاخوف، جعل الوعيَ الفنّي لرجاء عالم متجاوزاً للسائد، من جوانب مختلفة؛ منها: جرأتها على فكرة التجنيس الأدبي، وذلك واضح في "فسيفساء" نصوصها، ورفضها فكرة ما بين الفنون الإبداعيّة على اختلاف أدواتها، وهو ما جعلها تشكل مع شقيقتها الفنّانة التشكيلية شادية عالم، ثنائيّاً مبهراً في كتاب بعنوان: "جينات لارا"، وهو نصٌّ مشترك، يجمع بين الرسمين: الرسم بالكلمات، والرسم بالريشة، حتّى صار هذا الكتابُ إخراجاً وفكرةً، نوعاً نادراً من الكتب، فأودعت نسخة منه\منهما\ في زاوية الكتب النادرة بمكتبة باريس الوطنيّة.

لا أحد يستطيع أن يقولَ إنه يعرف رجاء عالم دون أن يعرف أعمالَها، أي أن أحداً لا يستطيع أن يكتبَ عن رجاء، إلا من خلال أعمالها وحسب؛ ذلك أنها لم تقدّم ذاتَها قبل أعمالها، وإنما قدّمت أعمالَها، لتكون هذه الأعمالُ رجاء.

بدأت رجاء الرحلة مع اللغة كاتبة في صفحةٍ اسمها: "حروف وأفكار"، بجريدة الرياض، ثم انعتقت من قيد المقالة، لتنطلق إلى عوالم المسرح والرواية، انطلاقةً مفاجئة، لا من حيث اجتراحها الجنس الأدبي، منذ مطلع الثمانينات، وإنما من حيث الجرأة في القول، واقتحام أسوار "المسكوت عنه وعليه"، في زمنٍ كان "المسكوتُ عنه"، مسكوتاً عنه حقيقيّاً.

وبعد أن نالت رجاء، جائزة البوكر العربية عن روايتها: "طوق الحمام"، نسأل معها من خلال "الطوق" نفسها، أما تزال بلادنا سجناً كبيراً للنساء، يديره الرجـال؟

نظنّ أن الشموس قادرات على إزالة الأسوار، وقد آلت إلى....