إنَّ القَضَاءَ العَادِلَ مَطْلبٌ مُلِحٌ تنشدُهُ الأُمَمُ، عَلَى اخْتِلافِ مَشَاربها وَنِحَلِهَا، والعَدْلُِ - عُرْفَاً - وَصْفٌ نِسْبيٌ؛ فَلِكُلِّ أُمَّةٍ هُويَّةٌ وَرُؤْيَةٌ، وإنْ ضَلَّتْ ببعضها السُّبُلُ .
وَقَدْ مَثَّلت القَوانينُ الوَضْعيَّة أسَاسَاً للأقضيَّة في سَوَادِ الدُّول، وبتأمُّلِهَا نجدُ منها ما هُو حقٌّ لَهُ أصلٌ في شَرْعِنَا، ومنها مَاْ هُو بَاطلٌ، لا نحْكُمُ ببطلانه وَحْدَنا، فهُنَاكَ مَنْ يشاطرنا الرَّأي حَوْلَهُ، وَهُوَ ما نجدُهُ في العَدِيْدِ مِن النَّظَريَّات القانونية بكافة اتجاهاتها؛ فالقانونُ لا يعني خُطَّةً وَاحِدَةً، تَسِيْرُ عليها الدُّوَلُ، بَلْ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ تَنْطَوي تحتها نظرياتٌ عِدَّةٌ، ولهُ مَبَادئُ لمْ تَسْلمْ من الجَدَلِ العِلْمِيّ.
وشَرْعنا المُطَهَّر لا يقفُ ضدَّ هذه الأنظمة، ما لم تُخالفْ هَدْيَهُ، وَنَسْعَدُ بالحِكْمَةِ أياً حَطَّت ركابها، فهي ضَالة المؤمن أنَّى وَجَدَهَا فَهُو أحق بها، ولذلك أصدرت الدَّولةُ العديدَ من الأنظمة؛ لتسيير مرافق إداراتها ، في مشمول المَصَالح المُرْسَلة، وهي عند التحقيق:"كلُّ منفعةٍ مُلائمةٍ لتَصَرُّفَاتِ الشَّارع ، دُوْنَ أنْ يَشْهَدَ لها بالاعْتِبَارِ أَوْ الإلغاءِ أَصْلٌ مُعَيَّن، لَكِنْ شَهِدَ لهَا أَصْلٌ كُلِّيٌّ كَقَاعِدَةِ: رَفْع الحَرَج ، وَنَفْي الضَّرَر"، وَتُسَمَّى: (المناسب، المرسل، الملائم، الاستصلاح).
ولا يُتَصَورُ تَعَارضُ أَدِلَّةِ الشَّرْع مَعَ المَصَالحِ الرَّاجحة، إِذْ لا يتأتى نهيُ الشَّارع عَمَّا مَصْلَحَتُهُ راجحةٌ أو خَالِصَةٌ، ولا أَنْ يَأْمُرَ بما مَفْسَدَتُهُ كَذَلكَ، وَقَدْ أدَّى الأخذُ بالمَصَالح المُرْسَلَةِ إلى انتظام أَحْوَال النَّاسِ في مَعَاشِهِمْ، وفي هذا يقولُ الشَّاطبي ـ رحمه الله ـ :"والشَّريْعَةُ مَاْ وُضِعَتْ إلاَّ لِتَحْقِيْقِ مَصَالح العِبَادِ في العَاجِلِ والآجِلِ وَدَرْءِ المَفَاسِدِ ".وَقَدْ عَمل الصَّحَابة ـ رضي الله عنهم ـ بالمَصَالح المُرْسَلَةِ في وَاقِعَاتٍ عدة، منها: جمعُ أبي بكر مُتفرقَ الصُّحُف التي كُتب فيها القرآنُ في مصحَف واحد، واستخلافه عُمَرَ بن الخطاب، ومصادرة عُمَرَ شَطْرَ أَمْوَالِ الوُلاة لما ظهرتْ لهم أموالٌ لم تكُنْ لهم قَبْلَ الوِلايةِ، هَذَا مَعَ عَدَم البَيِّنَةِ أنهم جَمَعُوهَا مِنْ غَيْر وجهها، لكنَّها قَرينةٌ قَويَّةٌ يُطْمَئنُّ إليها، وَيَتَوَجُّهُ التَّعْويُلُ عَلَيْهَا ـ عَمَلاً بغلبة الظن ـ .
ويُشترطُ لصحة العَمَل بالمَصَالح المُرْسَلَةِ، ألا تخالف نصاً، وألا تتضمن ابتداعَ عبادة، ولا زيادة ركن أو شرط لها، ولا زيادة أو نقصاً في مُقَدَّرَات الشَّريْعَةِ، وأن تثبت المصلحة في حُكْمها بالقَطَع أو غَلَبَةِ الظَّنِّ، ولا عِبْرَةِ بمُجَرَّدِ الظَّنِّ، وَأَنْ يُرَادَ بحُكْمِهَا عُموم المَصْلَحَةِ، وألا يترتبَ عليه مفسدةٌ أكبرُ منه، أو مساوية له.
أما ما يتعلقُ بشَرْط عُموم المَصْلَحة فإن كثيراً من نَظَر القَضَاءِ الإدَاريّ في مُرَاقَبَةِ مَشْرُوعيَّةِ قَرَارَاتِ الإدَارَة ـ تطبيقاً لأنظمتها ـ ينصبُّ عَلَيْهَا، وَيَصِمُ ما يخالفها بعَيْبِ: الانحراف بالسُّلْطَة أو إساءة استعمال السلطة.
والعملُ بالمصالح المرسلة من مؤيدات هذا الدين الذي استوعب الزمان والمكان، فكان رحمة للعالمين، ومؤهلاً لأن يختم الله به الأديان، وقد قيض الله له علماء ربانيين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهم حُرَّاسُ الشَّريعة، وبركةُ كل عَصْرٍ وَمِصْرٍ، بما آتاهم الله من بسطة العلم والفهم، فإليهِمْ ـ عِنْدَ الاسْتِحْكَام الرَّدُ ـ، وَعَلَيْهُمْ التَّلَقيْ والصَّدَّ، لَكِنْ بالبيِّنَاتِ والزُّبُر.
والعالمُ الرباني الراسخ في علوم الشريعة كالنجم الدري في غياهب الظلمة، وما أحسن ما قاله الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ في مقدمة كتابه: (الرد على الجهمية والزنادقة): "الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مجمعون على مخالفة الكتاب"، ويعلو الكعب في ركب أهل العلم والإيمان عندما تتوسع مدارك الفقيه في علم:"المقاصد" المشمول بالعديد من نصوص الكتاب والسنة، وفتاوى الفقهاء، دون أن يدونه الرعيل الأول في كتاب يحمل اسم هذا العلم، إلى أن جاءت النوبة للأتباع فدونوا العُلوم كافة؛ وصار بذلك علمُ: "مقاصد الشريعة"، وهو كما قيل: "أصولها الكبرى، وأسسها العظمى، وأركانها التي لا تبلى، وفروعها المتغيرة حسب الزمان والمكان؛ مراعاة لحالة الإنسان"، وهو من أشق العلوم، ولا ينال إلا برسوخ علم، وتوقد فهم، واستقراء وتتبع، وسبر وتقسيم، وجمع وفرق، ومن قبل وبعد سلامة مقصد، فما أكثر ما صُرفت النصوص عن مقاصدها بحجة مقاصد الشريعة، وإنما هي مقاصدُ التَّشَهِّيّ والأَهْوَاءِ، تختلُ النَّاسَ وتُدَلِّسُ عَلَيْهم، وَهَؤُلاءِ لا يخفون، مَعْرُوفون في لحن القول، والله طليبهم وحسيبهم، فمنهم من يتتبع الرُّخَص في الأقوال، والتلفيق بينها، ومنهم من يميلُ ويُرَجِّحُ قَبْلَ أن يبحث، فتجده يطفف في الأدلة، ويتأول معانيها على مراده المسبق، ومنهم من يشطح حتى إنك لتتهمه في عقله قبل دينه، والسِّجَالُ مَعَ هَؤلاءِ لا يَكَادُ يَنْتَهي، ولا أعظمُ من فتنةِ التَّشَهِّي والهَوَى إلا فتنةُ الشُّبهة والغي، فالأولى: اعتمال الشهوة في النفس، والأخرى: مخالفة الرشاد، وعند الاستحكام نتلو قول الحق تعالى: " قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ".
وفي مقابل هؤلاء: أهلُ العِلْمِ والإيمانِ، بعُلوم تطمئن إليها النفوس، وتسكن لها الأرواح، فيها الاستقراء والتتبع، والجمع والفرق، على جادة سواء، تنشد الحق بدليله، لا وكس ولا شطط، على هدي من كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، "وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ وَيَكُونَ ?لرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"، ودينُ الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، يمشي إليه العبد بين الخوف والرجاء، وما خابَ عبدٌ خاف ربَّه ورجاه.
وفي دائرة عدالتنا أَعْمِدَةٌ في العِلْم والعَمَلِ، قَادَ مَرْحَلةَ تَأسيسها وقعَّد لها بنصُوص الكِتَابِ والسُّنَّةِ وفهُوم أهل العلم سَمَاحَة الشيخ العلامة: محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محـمد بن عبد الوهاب ـ رحم الله الجميع ـ وَصَدَرَتْ أَنْظِمَةُ القَضَاء وإجراءاته مفيدةً من تجارب الآخرين فيما لا يخالف نصاً شرعياً، أخذاً بالحكمة أنى وجدت، ولاسيما أن الإجراءات لا علاقة لها بمحل الدعوى الذي تحكمه نصوص الشريعة في أصولها وفروعها، فإن لم يكن كانت البراءة الأصلية، ومن ثم كانت السلطة التقديرية للقاضي، ما لم تخالف مبدأً قضائياً قررته محكمة المبادئ، والأخير مستفاد من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: (بم تحكم؟) قال: بكتاب اللّه. قال:(فإن لم تجد؟) قال : بسنة رسول اللّه. قال: (فإن لم تجد؟) قال: أجتهد رأيي، فَضَرَبَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: (الحمدُ لله الذي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِِ اللّهِ لما يُرْضِى رسولَ اللّه)، وهو في المسانيد والسنن بإسناد جيد، ومن هنا ندرك الفرق بين: "الثَّابِتُ" و "المُتَغَيِّرُ" في منهجنا القضائي.
وتعظمُ الجنايةُ على الشَّريعة وَعَدْلها، عِنْدَما يحصلُ الخَلْطُ، فتُدخلُ المُتَغَيِّرَاتِ في الثَّوَابتِ، فتُحَمَّل النُّصُوصُ ما لا تحتمل، لتضطرب ـ في ثاني الحال ـ موازينُ العدل، فضلاً عن النيل من قوة الثوابت، والتقليل من شأنها، وإضعاف هيبتها في النفوس ولا أضر على الشريعة من إدخال المتغير في الثابت، والظني في القطعي، (على أن غلبة الظن معمول بها في الشريعة)، والأخذ بظاهر الدليل الواحد، وترك بقية الأدلة، وتفويت المقاصد الشرعية، والغفلة عن فقه الموازنات المرعية، وفي هذا الباب تفصيل ليس هذا محله فلا نطيل بذكره.
وفي هذا السياق لا تفوتنا الإشارة إلى السجال العلمي في شأن تدوين أو تقنين الأحكام الشرعية على هيئة مواد؛ منعاً لتناقض الأحكام وتضاربها في الواقعة الواحدة، وجمعا لها على صعيد واحد ليسهل تناولها والرجوع إليها؛ والتناقض لا يمكن تسويغه ألبتة إذ كلٌّ منسوب لحكم الشرع، وحكم الشرع لا يختلف، ولذلك حرصت محكمة التمييز والهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى في السابق على أن لا تخالف المحاكم الابتدائية المبادئ القضائية المستقرة، ومن يخالف ويصر ينقض حكمه، ويعهد بالقضية إلى غيره، ولا يفوت أن التناقض في الواقعة قد يسوغ في حال من سبق، حيث يأتي على الإقليم قاض واحد ويقضي بما يعتقده حقاً، ثم يخلفه عليه آخر ويقضي بخلاف قضائه في وقائع متماثلة على أن لا يعود بالنقض على أحكام سلفه فيما لو رفعت له مجدداً بعد حُكْم السلف، وفي مثل هذه الصورة تتجلى قاعدة:" لا ينقض الاجتهاد بمثله"، ولا يسوغ أن يأتي على الإقليم الواحد فضلاً عن المحكمة الواحدة أكثر من قاض، وكل يقضي بخلاف الآخر في الواقعة الواحدة، والفرق بينهما أن هذا التناقض متى كان في نطاق الولاية الواحدة ومتزامن الصدور، فإنه يكيف بالتضارب في الأحكام وله أثر سالب على النفوس والقناعات يتعين دفعه بما يزيل إيراده ولبسه، أما الثاني فيُكيَّف بتغير المبدأ القضائي، والعدول عن المبدأ من حين لآخر سائغ بمؤيداته وضوابطه الشرعية والنظامية، ولأن كان من يحكم بالقوانين الوضعية لا يرتضي التضارب السلبي في أحكامه، فمن يحكم بشرع الله المطهر أولى وأحرى، ولأن كان توحيد الفتوى ملحاً فتوحيد الأحكام ضمن وحدة موضوعية ـ مبادئ أو مدونات ـ أكثر إلحاحاً؛ حيث يجادل في الأولى الكثير خشيةَ قفل باب الاجتهاد، ومنع أهل العلم من بيان الحق بدليله بالحجر على أقوالهم بقول واحد (ما لم يرفع الحاكمُ الخلافَ في الشَّأن العَامّ).
ولا يفوت في هذا السياق التنويه بالعديد من الأنظمة التي قننت بعض الأحكام القضائية بعقوبات محددة لا يسوغ للقاضي مخالفتها، ويعتقد منظرو: "السياسة العقابية" أن هذا جزءٌ من منظومة نظام العقوبات الذي ينشده الكثير.
وأمامَ القَضَاءِ في هذا المعنى خياراتٌ عدة تؤدي إلى غاية واحدة تمثل مدارسَ وأفكاراً مؤصلة في فقهنا الشرعي، من بينها: المبادئ القضائية التي يتعين جمعها على صَعِيْدٍ وَاحِدٍ، وتعتبرُ عندنا بعد نظام القضاء الأخير مِنْ مُهمَّات المَحَكْمَةِ العُلْيَا، وهي أدقُّ وَصْفَاً وأقوى حُجَّةً من مجرد السابقة القضائية، على خلاف بين الحقوقيين، فبعضهم يرى أن السابقة تمثل مبدأ، في حين يرى آخرون أن المبدأ لا بد أن يُشمل بنص عليه، في: "حكم" أو "منشور" صادر من محكمة المبادئ.
ومن بينها: التدوين أو التقنين وهو ما يُطالبُ به الأكثرون، وله نظائر، منها ما سبقت الإشارة إليه من وجود بعض المواد ـ في عدد من الأنظمة ـ مشمولة بأحكام مقدرة ، يلزم القاضي التقيد بها، وإلا كان حكمُهُ متعينَ النَّقْضِ، وهو ما جعل بعض المختصين يطالب بتطوير الفكرة التي ثبت نجاحها في الحد من تفاوت الأحكام في الواقعة الواحدة، ليشمل نظام العقوبات، ويتبعه في السياق نفسه بقية الأنظمة كنظام: "الأحوال الشخصية"، و"النظام المدني"، و"النظام التجاري"، (وتسمى باصطلاح آخر قوانين)، وقد ارتضى المنظم السعودي اختيار مصطلح: "نظام" عوضاً عن مصطلح: "قانون"؛ لاعتبارات معلومة ـ لها ما يسوغها ـ على أنَّ المعنى السائد في الدراسات القانونية لمصطلـح: "النظام" لا يعدو ـ في سياقنا هذا ـ مفهوم السياسة العامة، فـ:" نظام القضاء" هو السياسة القضائية، على خلاف مصطلح: "قانون القضاء"، وهكذا في البقية، وكثيراً ما تخطئ الترجمة والنقل في ظل عدم الإلمام بالفروق المصطلحية، وفي غير هذا السياق يرد النظام بمعنى اللائحة.
والخيار الأول يمثل منهج المدرسة الأنجلوسكسونية، والثاني يمثل منهج المدرسة اللاتينية، وكلٌّ من المنهجين ـ في خصوص هذا المعنى ـ له أصل من العمل لدينا وتأصيل وسبق في فقهنا، في جملة من التراتيب القضائية، وإن لم تأخذ في مجملها توجهاً حاسماً نحو أي من هذين الخيارين المؤصَّلين، وفي المقابل لم تدع فراغاً ألبتة في هذا الشأن المهم حيث جمعت في غالبها الأعم بين محاسن المنهجين بحسب الأحوال.
على أن نظام القضاء الجديد نحا ـ في قراءة بعض الحقوقيين ـ نحو خيار المبادئ القضائية ـ بوجه عام ـ، وحجتهم في هذا المادة الثالثة عشرة، والرابعة عشرة من نظام القضاء، والمادة العاشرة، والحادية عشرة من نظام ديوان المظالم، ولا يخفى أن المبادئ القضائية تشمل مزايا التقنين، وتزيدُ بثلاث مزايا سبق حديثنا عنها في عدة مناسبات فلا نطيل بتكرارها، ولا يمنعُ هذا من شمول بعض المواد القضائية بالتقنين بحسب الأحوال، وهو ما ارتأيناه مشمولاً بالعديد من أطروحاتنا في هذا الصدد، بل رأينا أن الحاجة إليه ملحة في بعض المواد القضائية وبخاصة الأحوال الشخصية وبعض المواد الجزائية، وهو من الجمع بين الحسنيين، بل وفي كلتا المدرستين السابقتين مزيج من الآخر، وإن لم يمثل السائد، فاللاتيني لا يتجاهل السوابق القضائية في غياب النص التشريعي، والأنجلوسكسوني لا يتجاهل التقنين في حضور النص التشريعي، وجميع ما سبق يساق هنا بحثاً لا غير.
وَيَلْحَظُ الكثيرُ أنَّ النِّظَام القَضَائيَّ في المَمْلَكَةِ خطا في السنوات الأخيرة خطوات تطويرية نوه بها الجميع، فقد حُدثت أنظمته، وأصبحت قواعد مرافعاته وإجراءاته متميزة عند الموازنة، وتبع هذا التحديث العديد من حلقات النقاش والإثراء العلمي، وتبادل الخبرات، واستطلاع التجارب، والإفادة من التقنية الحديثة، وكذا ما تعمل عليه وزارة العدل من مسوحات ودراسات لشؤون القطاع العَدْليّ بين يَدَيْهَا تحديدُ الرُّؤْية والهدف، آملين أن نصل قريباً إلى تحقيق جميع الأهداف المرجوة، وما أسعد الجميع ـ مثالاً ـ لو استقطبت تجربة الوساطة والتوفيق، وانتشر الوعي الحقوقي بين أفراد المجتمع، ومنها إشاعة ثقافة التحكيم، وقصر الترافع على المحامي المرخص له، وحكم بأتعابه وتكاليف الدعوى على الخاسر، وهيئ المكتب القضائي بالمستشارين الأكفاء في الشَّريعة والأنظمة، وعهد لأعوان القضاة بالإشراف على تبادل المذكرات ودراستها وتدوين وقائعها، وربط ما يحكمها من سوابق، ومباحث، وأنظمة، ومقترحات، وفُعِّلَ من حَزْم المرافعة بضرب الآجال، وبالأحكام الغيابية، وتخويل قاضي التنفيذ صلاحيات أوسع ـ كما يعد به مشـروع نظامه الجديد ـ، وفُرِّغَ القاضي من كافَّة الأعباء الإدِارِيَّةِ والتَّوثيقيَّة، أو أية مناشط أخرى لا صلة لها بعمله القضائي، وتم وصله بإمداد التدريب الموجَّه والملتقيات العدليَّة، والبحثية، وتفاعل إيجابـاً مع الزيارات الاستطلاعية، لصقل ما يمتاز به من مادة وموهبة قضائية منافسة ولو لم يكن إلا تضلعه بحكم الشريعـة وإمضائه في أحكامه، ووظفت جميع إمكانات التقنية الحديثة لخدمة العملية العدلية، ومن ذلك إيجـاد قاعدة معلومات شاملة، وربط معلوماتي، وَهُوَ ما نسعى جاهدين لتحقيقه أخذاً في الاعتبار أن العديد مـن هذه الآفـاق لا تملك الوزارة تحقيق متطلباتها وحدها فلا بد من تضافر الجهود ذات الصلـة، وجميعنا ـ بحمد الله ـ ينشد المصلحة العامة ويسعى لتحقيقها، مستصحبـين في هذا أنه مهما رصد للمؤسسات القضائية من مال وكوادر بشرية فإنه لا بُدَّ مـِنْ بَدَائلَ تُسْهمُ في تَرْشِيْدِ الاعتمادُ الكُلّي على القَضَاءِ في جميع المنازعات، بإيجـادِ بدائلَ شَرْعِيَّةٍ للتَّسْوية، غير ملزمة للأطراف إلا عند القناعة بها، وإلا فمـرد الجميع القضاء.
إن تطوير مرفق القضاء ليس بحاجة إلى التعقيدات الإدارية، وبناء مؤسساتها التي تجاوزت الإدارة الحديثة كثيراً منها، وبخاصة ما يهدف منها إلى تعزيز سلبية الفكر المركزي، ورهاب المتابعة والمساءلة، وفرض الهيمنة بالصلاحيات، وتوسيع قاعدة التدخل الإجرائي والإداري، بقدر ما نحتاج إلى تسهيل الإجراءات وتعميق الثقة، والإيحاء بمبدأ الرقابة الذاتية ـ بضوابطه الإيجابية وفق الأنظمة المرعية ـ ، والتحديث المستمر لأساليب الإدارة القضائية، والفهم الصحيح لمبدأ الفصل بين السلطات دون ابتسار ولا اجتزاء ولا خروج عن مفهومه العملي، وبخاصة لدى من صدرت عنهم هذه النظرية الدستورية الوضعية، التي ننشد من حكمتها ما نشده واضعوها؛ فالفصل التام كما هو مطلب فئة قليلة من منظري هذه القاعدة الدستورية يرتد سلباً على القضاء رعاية وخدمة وحماية ويخرج عن أطر الاستقلال الحقيقية التي تمثل ضمانة النزاهة والحياد وعدم التأثير، وعليه فلا بد من التأكيد والتشديد على الاستقلال الإيجابي للقضاء المنصب على أحكامه، فلا يسوغ تحت أي ذريعة التدخل في الأحكام من أي جهة، ولا يجوز للقضاء السكوت عن أيٍّ ممارسة ضده تستهدف ولو بالإيحاء التدخل والإملاء، وتمرير المصالح من أي مصدر، ولو من داخل الجسد القضائي نفسه؛ إذ لا عصمة لأحد منا؛ فالاستقلال القضائي يتدرج من الخارج إلى الداخل القضائي نفسه، فالقاضي أو الدائرة القضائية تستقل في عملها القضائي عن إدارتها المباشرة وهو من معاني الاستقلال التي يجب أخذها في الاعتبار، وثمة آليات تقويم وتقييم تقوم بصلاحياتها ـ كل بحسبه ـ إن في المحكمة الأعلى درجة أو التفتيش القضائي، ثم كل منهما لا يملي على القاضي حكماً، ولا يمارس ضغطاً، بل إن بعض النظم القضائية عهدت إلى القضاء بسن إجراءاته وقواعد مرافعاته، وَقَلَّصَت ـ قدر الإمكان ـ من كثرة النظم واللوائح، وأوكلت ذلك للسوابق والمبادئ، وفي مشمولها سوابق ومبادئ الإجراءات التي اختطها القضاء نفسه.
هذا: ومن كان يعتقدُ أنَّ في الوسع تنفيذَ تطلعات القطاع العدلي، على عجل فقد أخطأ التقدير، لكننا ـ بعون الله ـ نبذل جهدنا لتحقيق هَذَا الطُّمُوح الكَبير وِفْـقَ دِرَاسَاتٍ مُسْتَفيضة ومقاييسَ زمنيةٍ محددة نسارع فيها ولا نعجل؛ لئلا نختزلَ الجَوْدَةَ بإنجاز مُبْتَسـر، أو كَسْب رِضَا المُتَرَقّب المُتَعَجِّل بطـَرْح إِعْلاميٍّ لا رَصِيْدَ لَهُ، وجميعُ هذا لا يمنعُ اعتمادَ خُطَطٍ: "قصيرة" و"متوسطة" و"بعيدة" المدى، ولدى الوزارة العَديد من الخيارات الاستراتيجية، تمت دراسة بعضها، ومنهـا ما هو على وشك الانتهاء، وقد تم ـ بحمد الله ـ الإفصاح عن خيارها المعتمـد في افتتاح أعمال المراحل العلمية لمشـروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطـوير مرفق القضاء، وقد بدأنا العَمَل بها فَوْرَاً.
هذا فيما يخص التَّخْطِيْطِ الاسـْتَرَاتيجيّ في الجوانب العِلْمِيَّةِ. أمَّا ما يتعلقُ بالتقنيَّة والمُنْشَآت والتَّجهيزات، فقد خطت الوزارة في هذا خطوات أفصحت عنها العمليات الإلكترونية في المحاكم وكتابات العدل، كما أفصحت عنها الخدمات المقدمة عبر بوابة الوزارة الإلكترونية، والعمل جار بسعي حثيث فيما تبقى على أن جزءاً منه ينتظر اعتماد التوقيع الإلكتروني، في حَلَقَاتٍ مُتَّصِلَةٍ ضِمَنَ أجندة الوزارة التطويرية، ولها في هذا خُطَّةٌ تعتمدُ الشراكة الفاعلة مع بيوت الخبرة في القطاعين: العَامّ والخَاْصّ، وما توفيقنـا إلا بالله.