ثمة اعتقاد شبه راسخ لدى الكثير من السياسيين الخليجيين والصحفيين وكتاب الرأي أن العراق أصبح ضيعة تابعة لإيران، على اعتبار أن الأحزاب والحركات الشيعية التي تهيمن على العراق موالية لها وخاضعة لسياساتها، وهذا ليس بصحيح على وجهين، أولا إن الأحزاب الشيعية ليست كلها على نسق واحد من الولاء والوطنية، فمنهم من يحملون الروح الوطنية العالية ولا يساومون على استقلال بلدهم، ومنهم أيضا من يوالون ولي الفقيه الإيراني ولا يرون غضاضة في ذلك، وهذا أمر طبيعي. ثانيا إن القول بأن العراق أصبح ضيعة لإيران خطأ، والصحيح أن العراق في طريقه لكي يكون ضيعة لإيران، والاختلاف بين العبارتين كبير لا يمكن تجاوزه، فالعبارة الأولى تعني أن إيران أخذت الجمل بما حمل وأصبحت صاحبة السلطة الحقيقية في العراق، تسرح وتمرح فيه، وهذا أيضا ليس بصحيح، فمازالت بعض خيوط اللعبة السياسية متوزعة بين الكتل السياسية الكبيرة المشاركة في السلطة، من الشيعة والسنة والأكراد، كما لا يمكن تجاهل دور أميركا الأساسي في الخارطة السياسية العراقية، فهي مازالت الرقم الصعب الأكبر في المعادلة العراقية والمنطقة أيضا، وإذا ما افترضنا جدلا أن شيعة العراق كلهم موالون لإيران "وهذا احتمال ضعيف للغاية" وأنهم بصدد ضم العراق إليها وجعله محافظة أخرى تضاف إلى محافظاتها الإحدى والثلاثين تكرارا للحالة الكويتية، فأين دور الأكراد الذين هم القومية الثانية الرئيسية في العراق؟ فكما لإيران أجندة سياسية طموحة تحاول تحقيقها على أرض الواقع، فإن للأكراد أيضا أجندة سياسية خاصة ومعروفة ـ يتعلق جانب منها بأكراد إيران ـ يحاولون تحقيقها منذ سنين، ولولا الاختلاف الشديد بين الأجندتين وتقاطعهما في أكثر من محطة، لما قامت إيران في الآونة الأخيرة بقصف القرى والمدن الحدودية لكردستان العراق بالصواريخ والطائرات المقاتلة على مرأى ومسمع من العالم، و"لما" أقدمت على قطع مياه أنهار (الوند وسيروان وقارون) المشتركة على مناطق واسعة في مدينة خانقين الكردية، مما أوقع فيها خسائر فادحة في الممتلكات الزراعية والحيوانية، عقابا للأكراد على تعاطفهم مع قضية إخوانهم وموقفهم المؤيد لبقاء القوات الأميركية في العراق.. وحتى إذا ما استبعدنا الدور الكردي في مناهضة التوسع الإيراني في العراق، فلا يمكن أن نغض الطرف عن حالة التوتر الموجودة بين إيران والمكون"السني" الذي يرفض الوجود الإيراني في العراق رفضا قاطعا، فضلا عن موقف الطوائف العرقية والدينية الأخرى العراقية المناهضة للهيمنة الإيرانية.. فالعراق بحسب آراء علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا (علم الإنسان والأعراق البشرية) يختلف في تركيبته الاجتماعية والثقافية عن الدول المجاورة، لا يمكن مقارنته بأي دولة أخرى مشابهة، فهو حالة خاصة، تضم مجتمعات متعددة ذات عادات وتقاليد ولغات مختلفة وليس مجتمعا واحدا، فسيفساء بشرية متباينة ومتناقضة تشكلت منها الدولة التي سميت بـ"العراق"! فعلى من يطمح أن يتقرب من العراق ويكون له موضع قدم فيه أن يتعامل مع التركيبة الموجودة فيه كما هي، لا كما يريده هو ويختاره، وهو الخطأ الذي وقعت فيه بعض الدول الخليجية في تعاملها مع الشأن العراقي منذ بداية تشكيل الحكم الجديد وسقوط النظام البعثي عام 2003، وحتى الآن..
كان من المفروض على دول مجلس التعاون الخليجي أن تنفتح على كل الاتجاهات والسياسات بنفس انفتاحها على البعض منها، ولا تفسح المجال لإيران أو تركيا مثلا أن تستغلا الفراغ السياسي الموجود في الساحة العراقية لتفرض هيمنتهما االسياسية والاقتصادية عليه، فتركيا غزت العراق اقتصاديا "حجم تبادلها التجاري مع كردستان فقط يصل إلى 6 مليار دولار، وهذا المبلغ ضخم، وبخاصة إذا عرفنا أن حجم تجارتها مع سورية لم يصل إلى نصف هذا الرقم على مدى عشرات السنين"، وإيران غزت العراق سياسيا، فبالإضافة إلى سفارتها في بغداد توجد لها قنصلية فاعلة في أربيل "عاصمة إقليم كردستان العراق"، فأين الوجود الخليجي وبالذات "السعودي" من كل هذا؟ ومن بين آلاف الشركات التجارية العاملة في العراق لا يوجد تمثيل خليجي يمكن أن يعتد به، وكذلك من بين الـ20 قنصلية أجنبية وعربية "مصر والأردن فقط" الموجودة في أربيل، ولا توجد قنصلية واحدة تابعة لدول الخليج! وهذا تقصير سياسي لا يمكن تبريره..
المطلوب من هذه الدول وعلى رأسها المملكة العربية السعودية الدولة القوية والمهمة جدا في المنطقة، والوحيدة القادرة بنفوذها الدولي الواسع ومكانتها الدينية المرموقة في العالم الإسلامي على وضع حد للنشاط التوسعي "التبشيري" الإيراني ولجم حركتها في العراق والمنطقة بشكل عام، وهذا لن يتم إلا من خلال انفتاحها على كافة مكونات العراق العرقية والطائفية المتنوعة حتى الشيعية منها، وأن تبادر فورا وبدون تأخير إلى فتح مكاتبها التجارية والدبلوماسية وقناصلها في كبرى المدن العراقية "البصرة" و"الموصل" و"أربيل" فمن خلال هاتين القناتين؛ التجارية والدبلوماسية تستطيع أن تضمن وجودا سياسيا فاعلا وضروريا للحفاظ على التوازن السياسي المختل في العراق، وكذلك لايجاد موطئ قدم ثابتة في بلد يعد الأهم في المنطقة.