لم تكن ليلة البارحة من الجمعة الأخيرة في العشر الأواخر لرمضان هذا العام ليلة عادية، وإنما كانت جمعة تاريخية للحدث التاريخي الإسلامي الذي كتبه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في عمله لأكبر توسعة للحرم المكي منذ فجر التاريخ الإسلامي. لقد كانت ليلة البارحة من أجمل الليالي الاحتفالية الإسلامية، حيث احتفل المسلمون في جميع أنحاء العالم بهذه التوسعة التي ستضيف مليونا ومئتي ألف مصلٍ في نهاية مشروعها العملاق، وستوفر مساحة لأربعمئة ألف مصلٍ بعد الافتتاح مساء البارحة. ولقد حرصت على المشاركة مثل غيري من المدعوين من جميع أنحاء المملكة ومن خارجها. ومع تقديري لفرحة جميع الحضور بهذه الاحتفالية، إلا أن مشاعري كانت متضاربة بين فرحة التطوير ورغبة المحافظة على التاريخ القديم، لأنني ولدت وتربيت وقضيت أجمل أيام حياتي الطفولية في منزل العائلة القديم في حي الشامية.. أرض التوسعة الحالية من الجهة الشمالية للحرم الشريف، ومازلت أتذكر أزقة تلك الأحياء الضيقة وأسواقها المتراصة والمغطاة بالأشرعة حتى بوابة الحرم، إلا أنني مع المصلحة العامة التي تدفعني وتدفع غيري من أبناء هذه الأحياء المنزوعة ملكيتها لصالح توسعة الحرم المكي الشريف إلى الفخر والاعتزاز بهذا العمل العملاق الذي قام به الملك عبدالله، والذي كلف أكثر من أربعين مليارا فقط لنزع الملكيات لصالح التوسعة، وستكلف مثلها لبناء التوسعة، وهي الأكبر والأفضل من حيث التصميم والإنشاء والخدمات المساندة وفق أحدث وأرقى النظم الكهربائية والميكانيكية لمباني التوسعة والساحات المحيطة بها، والجسور المعدة لتفريغ الحشود من المصلين والمعتمرين وحجاج بيت الله. وتساند هذه التوسعة الجديدة أعلى المستويات من التقنية للأنظمة الحديثة في مختلف المجالات، وعلى وجه الخصوص في الإضاءة والتكييف وتنقية النفايات والتخلص منها، وأنظمة الرقابة الأمنية، ونوافير شرب الماء، وسيتم في هذه التوسعة تظليل الساحات الشمالية وربطها بالتوسعة الأولى والمسعى من خلال جسور متعددة. والأهم من هذا أمر خادم الحرمين للقائمين على هذه التوسعة بدراسة توسعة المطاف وتكييفه، وهو أمر ينتظره المسلمون منذ وقت طويل. وقد سبق أن كتبت في هذا الشهر الكريم مقالة أوضحت فيها معاناة المسلمين الطائفين حول الكعبة والمصلين حولها في صلاتي الظهر والعصر، ونقلت معاناة المسلمين والتي تنتظر مبادرة الملك عبدالله، أطال لله في عمره، لإيجاد حل عملي للمطاف حول الكعبة، فالمطاف بحاجة إلى توسعة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المسلمين القادمين للصلاة أو العمرة في المسجد المكي الشريف، والمطاف بحاجة إلى تكييف وتظليل.

وها هي مبادرة الملك عبدالله العظيمة بالأمر بدراسة توسعة المطاف وتكييف الحرم بأكمله. وبهذا يكون قد رفع المعاناة من رؤوس المسلمين، وهو عمل جليل سيحظى بدعاء المسلمين للقيادة السعودية، وبتقدير جميع الدول الإسلامية وشعوبها التي تتجاوز المليار مسلم. وبهذه التوسعة للحرم المكي تكون المقدسات الإسلامية في مكة المكرمة قد اكتملت معظم احتياجاتها الأساسية والآنية. فتوسعة جسر الجمرات وتطوير طريقة وأسلوب الرمي بأسلوب معماري فني استطاعا أن يغطيا على أزمة التكدس للمسلمين.

كما أن قطار المشاعر استطاع أن يعالج قضية النقل وصعوبته من عرفة إلى مزدلفة ثم إلى منى والعكس، ولم يبق لتطوير المقدسات في مكة المكرمة سوى تطوير الإسكان في مشعر منى، وتحويلها من سكن الخيام إلى السكن الأسمنتي على أطراف الجبال، ثم ربط مشعر منى بالحرم المكي الشريف عن طريق قطار المشاعر. نعم، إنها أعمال عظيمة ذات مردود عظيم على المسلمين، وكم نحن فخورون بقيادتنا التي حرصت ومازالت تحرص على وضع هدف خدمة المسلمين الهدف الأول، وسخرت جميع الإمكانات المادية والبشرية لتحقيق هذا الهدف. وكما قلت سابقاً إن بقاء هذه القيادة في الحكم كان وراءه أعمالهم الجليلة ودعاء المسلمين لهم، لهذه الأعمال المشرفة التي يقومون بها لخدمة المسلمين.. حجاجا ومعتمرين ومواطنين ومقيمين. وهي ليست شهادة أسجلها وإنما هي حقيقة أوكدها، وأضيف أن هذه الأعمال العظيمة لخدمة المسلمين تجعل المملكة العربية السعودية وقيادتها محل تقدير واحترام لدى شعوب العالم المسلمة. وإذا كان لي من تعليق على مشروع توسعة الحرم المكي الشريف فإنني سأعلق على بعض الجوانب الاقتصادية، وأهمها هو التمني على المقاول المكلف بهذا المشروع بألا يغفل عن البعد الاقتصادي والاجتماعي لمدينة مكة المكرمة وسكانها، وأعني تحديداً إتاحة الفرصة للمقاولين الصغار في مكة المكرمة وأصحاب المهن والموردين لمواد البناء للحصول على بعض أجزاء هذا المشروع. وسيكون لهذا مردود كبير على اقتصاد المدينة وعلى مجتمعها. كما أتمنى أن تنعكس فترة تنفيذ هذا المشروع على تشغيل أكبر قدر ممكن من أبناء مكة المكرمة، السعوديين الجامعيين المهندسين والإداريين والمحاسبين وبعض العمال المتخصصين، وإذا لم يتوفروا حسب مواصفات العمل فبالإمكان تدريبهم وتأهيلهم لذلك. إن مشروعا يكلف عشرة مليارات ريال لتوسعة الحرم المكي يتوقع منه بعد اجتماعي كبير لمكة المكرمة وأهلها واقتصادها.

إنه ليس من العدل أن يقف المقاولون بأنواعهم في مكة المكرمة متفرجين على هذا المشروع وليس لهم حصة فيه، وليس من العدل أن يحرم المهندسون السعوديون من المشاركة في هذا المشروع الذي يعتبر العمل فيه شرفاً لهم، وخبرة لا تقارن بأي خبرة أخرى.

إن البناء إذا لم يقابله الإعداد لبرنامج التشغيل والصيانة ليبدأ عمله حال الانتهاء من البناء والتشييد فسيواجه المشروع مشكلة في التشغيل، تنتهي بمقاولة شركة تشغيل وصيانة بأيد أجنبية وبتكاليف عالية جداً، والتي أخشى أنها لن تتيح الفرصة للشباب السعودي للعمل بها.

وأخيراً أتمنى مستقبلاً أن تكون هناك توسعة جنوبية تشمل إزالة العمران المجاور للحرم المكي، والذي اختنقت به الساحات حول الحرم، ويشكل خطورة على أمن وسلامة المصلين في الساحات المجاورة للحرم.

إن أي توسعة للحرم ينبغي أن تأخذ في الحسبان تطور أعداد المسلمين خلال المئة عام القادمة. وإن تاريخ التوسعات للحرمين الشريفين سيسجل للملك عبدالله كلمات من ذهب للإنجاز العظيم الذي قام به تجاه توسعة الحرمين الشريفين وخدمة المسلمين.