بدت على ملامح البريطاني وليام لورانس براغ الفطنة والذكاء في سن مبكرة جدا. كان يحرص على الاطلاع على كتب الرياضيات والفيزياء التي يتركها والده خلفه بنهم. وكانت نقطة التحول في حياته عندما سقط وهو يقود دراجته الهوائية وهو في الخامسة من عمره، وكسر ذراعه، فأجرى له والده وليام هينري براغ، وقتئذ، فحصا بالأشعة السينية (الإكس راي) مستفيدا من تجارب العالم الألماني وليام رونتجن، في أول استخدام رسمي للأشعة السينية في أستراليا. انكب لورانس بعد هذه الحادثة على دراسة الأشعة السينية ومحاولة سبر أغوارها بعد أن لمس الأصداء الكبيرة التي تحدثت عن الفحص الذي أجراه له والده.

طلب لورانس من أبيه وهو لم يتجاوز العاشرة أن يشرح له الخطوات التي اتبعها خلال قيامه بفحص ذراعه بالأشعة. تفاعل والده مع طلبه معتقدا أن إجابته ستخمد فضوله، بيد أنها أشعلت سعير الأسئلة في داخله. الشغف الكبير الذي أظهره لورانس في الاستكشاف والعلوم لفت أنظار الجامعات والكليات لاستقطابه فحصل على عروض لمنح دراسية في أكثر من كلية. درس مبكرا في كلية سان بيتر حتى تخرج منها، ثم التحق بجامعة إديليد عام 1904 قبل أن يكمل 14 من عمره لدراسة الرياضيات والكيمياء. في عام 1909 انتقل مع والديه وأسرته إلى بريطانيا وحصل على منحة دراسية في كلية ترينيتي في كامبردج. وأظهر براعة كبيرة في دراسته و استطاع أن يجتاز الاختبارات وهو على سرير المرض بعد إصابته بالتهاب رئوي. وواصل وليام دراسته العليا في الفيزياء بكامبردج منشغلا بموضوع (حيود الأشعة السينية)، المعني بالمعلومات التقنية والبنية البلورية والتركيب الكيمائي والخواص الفيزيائية للمواد الرقيقة، بالتعاون مع والده. وقد نالت النتائج التي حققها مع والده حول حيود الأشعة السينية اهتماما علميا هائلا، آنذاك، حصلا بفضلها على جائزة نوبل للفيزياء عام 1915، وهو في عمر 25 عاما، كأصغر فائز بجائزة نوبل. ولم يكتف لورانس بهذا الإنجاز بل حصل على عدة ألقاب وجوائز لا حصر لها نتيجة جهده البحثي المتواصل وشغفه العلمي المبهر.

ورغم النجاحات العلمية والعملية الكبيرة التي كان يحرزها لورانس في حياته إلا أنه شعر بحزن كبير عندما انتقل إلى لندن وأصبح لا يملك في مقر إقامته الجديد حديقة ينشغل بريها والعناية بنباتاتها. فقد كان يعزو الكثير من نجاحاته الفيزيائية إلى تلك الحديقة التي يقضي في رعايتها أوقاتا طويلة. فحينما يشعر بخيبة أمل تداهمه خلال أبحاثه يذهب إلى الحديقة لينشغل بها ومعها. ويتأمل كيف ترتفع بحبور أعناق النباتات التي غرسها ورواها بيديه قبل أن يعود إلى مكتبه فخورا بإنجازاته في الحديقة التي تلهمه لمواصلة الاستكشاف والبحث في الأشعة السينية وحيودها. وعندما فقد لورانس حديقته في لندن لم يجد خيارا سوى أن يعمل في حديقة عامة في دوام جزئي ليستطيع معانقة البذور والبناتات من جديد. ولم يكتشف رب عمله أن البستاني الذي كان يأمره بتشذيب الأغصان ووضع السماد هو العالِم الفذ وليام لورانس براغ إلا بعد عدة شهور إثر حديث جمعه مع زائر للحديقة رأى لورانس يتنقل بين الأشجار بزي البستاني.

إن التجارب التي نستلهمها من وحي المبدعين والعلماء تشير إلى أن نجاحهم لم يكن نتيجة لتفوقهم ونبوغهم في مجالاتهم فحسب، بل لأنهم وفروا لأنفسهم هوايات ومجالات أخرى يتنفسون من خلالها. الهوايات تهبنا دائما فرصة للنسيان الموقت والعودة لما نحب بشوق وحنين.

نخطئ كثيرا في توجيه أطفالنا للدراسة فقط دون أن نحثهم على البحث عن هوايات تبهجهم وتكملهم. إن الهوايات مهما كانت صغيرة ستدر على المرء خيرا وفيرا بالقدر الذي تمنحه الوظائف الرئيسة بل وربما أكثر كثيرا. فلا أجمل على الإطلاق من أن تجد مساحة تدفن فيها حزنك وضعفك وضجرك. إن العناية بالحديقة والرسم لم تمنع لورانس من الاستكشاف والحصول على نوبل، بل ساعدته على نيلها. الكثير من بؤسنا يختبئ في رؤوسنا، التي شغلناها بشيء واحد فقط رغم أنها مليئة بالغرف الشاغرة، التي تحتاج إلى من يرتادها ويتردد عليها قبل أن يتراكم عليها الغبار فتخنقنا.

قال الأوائل: "لا تضع كل البيض في سلة واحدة". ففي حالة سقوط هذه السلة قد تخسر كل بيضك. إذا لا يجب أن نضع كل همومنا واهتماماتنا في سلة واحدة. لمَ لا نوزع طاقتنا؟

ثمة مشكلة أزلية نعاني منها كشعوب عربية هي ازدراؤنا للهوايات وتقليلنا من شأنها، فمعظمنا يغفل أهمية إيجاد الهوايات وممارستها، ويختزل العالم بأسره في عمله. فإذا شعر بتهديد أو فشل في مشروعه أو موقعه أضرم النار في أعماقه وأحرق نفسه والآخرين. إن الحزن كحبل مسلط علينا إذا لم نقطعه سيخنقنا. والمقص الذي سيفصل رقبة الحزن عن رأسه هو الفرح الذي ينتشر في عروق الهوايات. كيف نريد أن نبني جيلا واعدا ونحن نحتقر المهن ما ظهر منها وما بطن، ونحط من قدر الفنون؟

إن عالمنا كالمنزل الذي يموج بالحياة لكنه تنقصه النوافذ. هذه النوافذ هي هواياتنا التي يجب أن نستنشق عبيرها وإلا فسنختنق. دعونا نبحث عن منتجعات نمضي فيها لحظات جميلة تلهمنا وتسعدنا. إن هذه المنتجعات ليست بعيدة كثيرا. إنها في دواخلنا. فقط علينا أن نعثر عليها.