امرأةٌ لا تدع الوقت للوقت، بل إنها تعتقل الزمن، وترمي به في حوض أعمالها المبهرة، وتذهبُ في إخلاصها لمهنتِها/قضيّتها إلى حدود الاستبسال؛ ذلك أنها مذ رأت "الزهرة" تصير دماً ناتحاً من الأورام، أخذت على عاتقِها أن تسخّر أبحاثَها لاستئصال "الخبيث" الذي يتأصّلُ في الأجساد، ويكتب الصفحات الأخيرة من الحياة.

سعاد بنت محمد بن عامر، جادّةٌ بالوراثة، وصادقةٌ بتأثيرٍ من جيناتها الأولى، فجذرها مكانٌ تعلمه وتنتمي إليه، لكنها لا تعرفه كما يعرف المستكنّون حول جذورهم، مدارجَ أهلهم، وقبور أجدادهم، لأن انشغالَها برعاية الحياة لم يهبها هنيهاتٍ، تستطيع خلالها أن تتخذ من قوس قزح جناحاً، أو ترضع الزلال من ثدي غيمةٍ نقيّة، تنحني لتقبّل رأس القمة المطلّة على "تيهان".

نعم، جادّةٌ بالوراثة، فوالدها الراحل، الفريق محمد بن عامر التيهاني العسيري، الرجل المكتَنِزُ بالشيم، ذو شعاعٍ خيريٍّ ممتدٍّ في نفوس الكثيرين ممن كان معهم في كلّ ضرّاء، حين كان يدخل يديه إلى أغوار العتمات مبتسماً، ليخرج منها مصابيح كثيرة، تهب الناسَ الأمل، ويصعدون مستنيرين بضوئها، إلى الوضعَ الأفضل، وهو معروفٌ بالجدّ والصرامة والالتزام، والإصرار على النجاح، حتى الوصول إلى القمّة العليا، وليس أدل على ذلك من "الفريق" الذي بدأ حياتَه العسكريّة جنديّاً.

سعاد الطبيبة، لم تجعل من مركزها البحثي قمقماً لا تخرج منه إلا إليه، وإنما جعلت من مهنتِها قضيّةً إنسانيّة، فلم تقف عند حدود تميّزها العلمي المشهود، بوصفها رئيسةً لوحدة أبحاث سرطان الثدي بمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث، بل راحت تتابع الحملات الورديّة، من أجل حياةٍ ورديّة، ومن أجل "مليون زهرة وزهرة"؛ تتابع الحملات التثقيفيّة، حملة تتبع أخرى قائلة: "نعم للحياة.. لا للسرطان".

توفّيت والدتها السيدة الأبهيّة زهـرة بنت علي بن حرفش، متأثّرةً بمرض سرطان الثدي، فأسست سعاد جمعيّة "زهرة"، تيمناً باسم والدتها الراحلة، علّها تنسى شحوبَ العالم في عينيها بوفاة أمّها، حين ترى العالمَ الورديّ المتفتّح في أعين النساء اللائي وعينَ الخطر، وداومن على الفحص الذاتي للثدي.

هكذا، وهبت سعادُ علمَها وروحَها وعقلها وذاتها كلَّها، لمقاومة هذا المرض، غير مكتفيةٍ بأبحاثِها العلميّة في هذا المرض، وغير متوقفة عند تطوير الكفاءات الطّبيّة المتخصصة، وإنما طفقت تبحث عن الطرائق التثقيفيّة التي تحول دون وصول الداء إلى مراحل اليأس من البرء، فأسّست جمعية زهرة لسرطان الثدي، منطلقة من إيمانها بأن الوعي والمعرفة، يعضدان العلمَ والطبابة، في التعامل مع التحديات الصحية، لتكون هذه الجمعيّة منطلقاً لنشر الوعي بأخطار المرض ومراحله، بين سيدات المجتمع السعودي في جميع مناطق الوطن، من أجل التأكيد على أهمية الكشف المبكر عن سرطان الثدي، لمعالجته قبل تفاقمه، والعمل مع المصابات به خطوة بخطوة، من أجل الشفاء التام بإذن الله.

تحوّلت معاناة الذات ـ عند سعاد ـ إلى قضيّة، وتحوّل التخصص العلمي إلى "أنسنة" وطنيّة متجاوزة، لا تقف عند حدود المحاضرات والندوات، بل تذهبُ إلى الإبهار في الأفكار وأشكال تنفيذها.

قدرة الدكتورة سعاد الإدارية الهائلة، جعلت الهيكل الإداري لـ "جمعيّة زهرة"، أنموذجاً، فتعدّدت مرافقها، وتتالت عضوياتها الدوليّة، واتفاقاتها المحلّية، واتسعت مناشطها باتساع الوطن.

هذه القدرة، جعلتْها تبتكر الجديد المدهش من الأساليب التثقيفية؛ فكان أن بهرت العالمَ في نوفمبر 2010، بتشكيل حوالي 4000 امرأة، أكبر شريطٍ ورديٍّ بشري في العالم، ليتحول مجمع وزارة التربية والتعليم الرياضي بجدة، إلى أكبر "لا" لسرطان الثدي، وهي "اللاء" نفسها التي تمثّل شعار "زهرة". ودخل ذلك المشهد الرائع إلى موسوعة جينيس للأرقام القياسية، ضمن فئة أكبر شريط توعوي بشري. يومَها كان لونُ الحجاب الوردي الجمعيّ لآلاف السيدات، ذا دلالاتٍ ونكهاتٍ سعوديّةٍ خالصة.

هذه السعاد، لا تستسلم لما تراه، ولا تتوسد الليلَ في انتظار فتك "الخبيث"، بالمزيد من المصابات به، وتعمل.. تعمل.. تعمل، في كلّ اتجاه، كيلا ترى "زهرة" أخرى تذبل أمام عينيها.

سعاد، ترعى الحياة، وتسهر عليها، وتعاند المرض الفتّاك، وترفض مفاجآته المؤلمه، مبتكرةً ألف جناح، لا لكي تطير، أو نطير، بل لكي ننعمَ بإكسيرٍ ووعيٍ يهزمان "الخبيث" بإذن الله.