لا أحد يكره العمل، ومن الرائع أن يحب الإنسان عمله، وخاصة ما إذا كان مهنة يدوية، فالعمل اليدوي مهنة جليلة ومشرّفة ولا أحد ينتقص منها ومن قدر صاحبها، ولكن هل من الطبيعي أن شاباً جامعياً مؤهلاً لسوق العمل يعمل ماسحاً للأحذية؟ أظن أن العمل في هكذا ظروف يكون وفقاً للمثل الشهير (مكره أخاك لا بطل)، ونلاحظ في أن أكثر من يمارس هذه المهنة إما الأطفال أو كبار السن، من الطبقات المعدمة في دول أخرى محدودة الدخل الاقتصادي. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، يحكي لي أحد كبار السن حكاية طريفة لا أعرف مدى دقتها، ولكن يمكن أن نذكرها هنا للتسلية لا أكثر. يقول: إن سكان شبه الجزيرة العربية كانوا ـ طوال أجيال مضت ـ يمارسون الأعمال اليدوية، ولا يأنفون منها على اختلافها، لأن ظروفهم الاقتصادية حتمت ذلك، وأتاحت لهم هذه الممارسة سبيلاً للبحث عن عيش كريم، وإبان حقبة الاستعمار العثماني، انتشرت عادة سيئة وهي التمييز المهني، إن جازت تسميتها بذلك، حتى نفر السكان من بعض المهن معتبرين أنه لا يمارسها سوى شخص وضيع، فانتشرت هذه العادة، حتى انصرف الناس عن ممارسة بعض المهن، وأصبح من يمارسها محط الازدراء والاحتقار.
وزارة العمل حاولت كسر هذه العادة البالية من خلال تمويل إعلانات تدعو الشباب السعوديين إلى العمل ماسحي أحذية. فأحد الشباب ـ وهو ممثل يقوم بدور افتراضي لا أعرف مدى وجوده على الواقع ـ يقول: إنه عمل سفرجياً بأحد الفنادق وارتقى في المهنة حتى تضاعف دخله ستة أضعاف، أحد الأصدقاء قال لي: يجب أن نعرف كم كان دخله لكي نحكم على جدوى المهنة.
وممثل آخر يقول: إنه لم يلتفت لانتقادات المجتمع، وعمل ماسح أحذية واستطاع تنمية هذه المهنة حتى أصبح يملك محلاً، أو مصنعاً للأحذية، لا أذكر. أتساءل هنا ببراءة: هل فكّر هذا الشاب السعودي بين القاسم المشترك بين لون (الصبغة) ولون البترول؟
ليس سراً أننا دولة نفطية، ومجتمع نفطي، ونموّل العالم كله بالنفط، وبالتالي يفترض أن يكون دخل المواطن السعودي أعلى مما هو عليه الآن بكثير، ولكن ليس إلى المدى الذي يتخيلنا فيه العالم براميل نفط تمشي على الأرض، فلسنا كذلك بطبيعة الحال. فما زالت لدينا مشكلات كثيرة منها البطالة، التي تجبر الكفاءات المتعلمة أو المدربة للعمل بمهن أقل من مستواها الطبيعي المفترض؛ فإذا ما حدثت "البطالة" بشكل بات يهدد المجتمع؛ فهذا يعني وجود خلل كبير في منحنى التوزيع الطبيعي للاقتصاد، ويترتب عليه تآكل الطبقة المتوسطة في ظل ظروف أكثر من ممتازة بالنسبة لمبيعات البترول.
وعلى الرغم من أن الدولة سوف تتكفل بالصرف مالياً على العاطلين، وهو القرار الذي ننتظر أن يتم تطبيقه بداية العام القادم، إلا أن هذا الأمر رغم أهميته لن يكون كافياً، في ظل حديث المجتمع برمته عن "الفساد" الذي بات ملاحظاً في الشوارع، ويترتب على وجوده سوء توزيع للثروة الاقتصادية في البلد، وخاصة أن الحديث عن الملايين بات موضة قديمة، فالحديث الآن أصبح عن المليارات، مع وجود ملايين العمالة الوافدة، الذين يزدادون سنوياً فتتقلص الفرص أمام الشباب السعودي، الذي لا تفي مردودات مهنته بمتطلبات حياته اليومية، ولا سيما أننا نعيش حياة استهلاكية فرضتها ظروف كثيرة، ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية، ولا سيما أن بعض الإحصائيات تشير إلى أنه ما بين 60-75 % من السعوديين لا يملكون مساكن! ونحن نعلم أن سكان السعودية أصبحوا جيلاً شاباً، إذ ترتفع نسبة الشباب إلى أكثر من 60% اليوم.
وبالتالي نحن أمام معضلتين، كمطرقة وسندان، وهما: الشباب، ومتطلباتهم المختلفة. بدءاً بالمسكن، ولكن ليس الأمر انتهاء بوقود السيارة التي لا مجال للاستغناء عنها في بلادنا الفسيحة، في ظل عدم توافر وسائل النقل العام كبقية دول العالم من بنية تحتية سليمة ومترو وحافلات تناسب الإنسان البترولي. ولم يصل الأمر بشبابنا، الذين يمثلون أكثر من نصف المجتمع أن يعملوا ماسحي أحذية! ليس لأنها مهنة وضيعة ـ حاشا لله ـ ولكن لأن الأمر بنا كدولة ومجتمع لم يصل لهذا الحد، فبلادنا فيها خير كثير، وإن كنا نحتاج إلى التوزيع والتخطيط ليعود المنحنى إلى طبيعته.
ولا سيما أن وعي المجتمع بذاته وبالعالم المحيط من حوله أصبح أكثر وقعاً على الفرد بفضل ثورة التقنية والاتصال، التي أعقبها درجة لا بأس بها من الانفتاح والمقاربة الثقافية، حيث بدأ مجتمعنا يلاحظ المفارقات والفروقات بينه وبين مجتمعات أقل منه تنموياً واقتصادياً، على الرغم من الريادة البترولية، وبالتالي نحن اليوم بحاجة إلى إعادة الثقة للمجتمع أولاً من خلال خطط تنموية نراها على أرض الواقع لا على الورق، ومن ثم نعمل على تطهير البلد من شبح الفساد، الذي ما إن يحل بمكان حتى يهدر الإنسان قبل إهدار الثروات. وغير مرة قلت إن شبابنا هم بمثابة قنابل موقوتة، يصبرون ولكنهم لن يصبروا كل الوقت. لن تستطيع وزارة العمل إقناعهم بالعمل ماسحي أحذية، هم يريدون أفعالاً لا أقوالاً، يريدون إعداداً واهتماما وتأهيلاً.. في وطنهم الذي يستقبل كل جنسيات العالم للعمل فيه كسوق كبيرة مفتوحة لإثبات القدرة والإمكانيات، وخاصة أن سوق العمل السعودي في كافة مرافقه لا يخلو من أولئك القادمين، لا لأنهم الأفضل ولكن لأنهم الأرخص.. فليمنح الوطن شبابه مساحةً ـ لا مسحاً ـ يشعرون فيها بتكافؤ الفرص!