بقي خالد يتأمل صفحة تقديم الطلب لإحدى الكليات العسكرية لساعة اختصرت ذاكرته حياته كلها فيها، فأول سؤال يطلب منه الإخبار عن والده، عمله واسمه.

ابتسم بسخرية، فما عساه أن يقول: والدي فلان الفلاني مدمن سابق وسجين حالي، لم يعمل شيئاً مطلقاً، سوى إنجاب طفل في كل مرة كان يستنشق فيها رائحة الحرية. فكر خالد وهو يصارع غصة في داخله لو أن في الطلب مساحة ليتحدث عن نفسه، ليخبر عن تجربته في العمل في مكتبة الجامعة ليحصل على عشرة ريالات في الساعة، هذه الريالات العشرة التي أحدثت فرقاً في حياته وحياة إخوته وأمه التي حلمت دائماً بأن تراه مثل أولئك الضباط الذين يقفون بشموخ على حدود هذا الوطن، أو الذين يحلقون يحمون سماءه، أو الذين يحفظون مدنه وقراه.

كم يود لو يخبرهم عن شعور القائد في داخله، وكم هو قادر على إثبات ذاته أو نفسه، لكن تلك الصفحة خذلته، إنها تسأل عن أبيه الملقى في أحد السجون، وعن أعمام لا يعرف بالضبط مكانهم في هذا العالم، وعن إخوة صغار ينتظرون متى ينتشلهم من الفقر، يمرر المؤشر إلى علامة (×) ويغلق الصفحة.

قد يخبر أحدهم خالداً بأن لا أهمية مطلقاً لهذا السؤال، وأنه لا يعد معياراً للقبول في الكليات العسكرية.

حسناً ولماذا وضع أصلاً إذا لم يكن له أدنى أهمية؟ ولِمَ لا يُلغى وتترك بدلاً منه مساحة يتحدث فيها الفتى عن نفسه تطبيقاً لقول العرب: "إن الفتى من قال ها أنذا"؟

في الواقع، إنه ليست الكليات العسكرية فقط من يسأل عن الأب والأعمام والأخوال، بل حتى الشركات الكبرى التي يحلم الشباب بالانضمام إليها أصبحت حكراً على أبناء موظفيها الكبار. وإذا لم تمتلك فيتامين واو فلا تحلم بالالتحاق بها. فأين يذهب أبناء الغلابا، أو المساجين أو الفقراء؟

إن الحياة الشاقة التي يعيشها الفتى قد تدفعه للتميز إذا كان في داخله بذور النجاح، والتاريخ يخبر عن جرير ووالده، كما أن التاريخ الحالي يخبر عن شخصيات عظيمة أثرت وصنعت مستقبلها دون حتى وجود أب، مثل أوباما، فما هو إلا ابن لرجل أناني غادر أميركا متناسياً طفله؛ ليجتهد الفتى الأسود في حياته ويصير أول رئيس أسود لأميركا.

إن هؤلاء الشباب الذين عانوا من الفقر والحاجة وفي دواخلهم تشتعل الرجولة والرغبة في التميز، ينبغي أن نمنحهم الفرصة وألا نضع في طريقهم العوائق حتى لا يكون فيتامين واو هو اجتهادهم فقط.