منذ أن كان على أعتاب مراهقته الفنية مع الصورة، كان يحلم طويلاً بتوثيق أزقة حيهم الصغير، إلى أن اشتد عوده مع العدسة، فأخذ يبحث في الأماكن عن تراث سيندثر قريبًا، فكان على موعد مع رجل الجنوب بزيه التقليدي الجميل المعمم بالرياحين، مرورًا بتلك العجوز في سوق الخميس الشعبي في محافظة الأحساء التي تتظلل عن الشمس بـ"عمارية" مصنوعة من ليف النخيل، وهكذا يتشهى رائحة الطين في البيوت العتيقة حتى حفظت عدسته تراثًا وطنيًا اندثر بعضه، وبعضه الآخر يحتضر، "الوطن" التقت المصور يوسف الناصر وهو بجانب عدسة معتقة بأقواس وأباريق من فضة وأبواب تحمل نقشة مات صانعها.

ويرى الناصر أن توثيق التراث من الناحية الفنية الفوتوجرافية يحتاج الكثير من القراءة والتثقيف، وفي الوقت نفسه لا يرى ضرورة ملحة للقراءة الأكاديمية أو المواد العلمية التي تسبق التصوير التراثي إلا من باب أن تكون الصورة ستتحدث وثائقيًا عن مراحل تطور وتنوع وجماليات النسيج التراثي.

ويقول يوسف إن التراث يمثل ذاكرة مشعة لأي مجتمع، فالحنين إلى التراث والاتكاء عليه يعني التمسك بالجذور في عصر تميز بسرعته الضوئية أو أكثر في التغير والانفتاح على الثقافات الأخرى, وهذا جعله ميالاً بهذا الاتجاه، إضافة إلى حبه في عدم التفريط بهويتنا الثقافية السعودية الغنية والثرية بإنسانها وتنوع بيئتها وأقاليمها والاحتفاء بها وإبرازها في المعارض المصاحبة للمحافل الداخلية والعالمية بين حين وآخر.

وكانت بداية المصور الناصر مع العدسة بدأت بمراهقة تميزت بلفت الانتباه وحب التميز كـ"سمات" أصيلة تعرف بها هذه المرحلة، فعلق كاميرا بسيطة على كتفه وراح يصور كل ما يدور حوله وكأنه يريد تصوير إيقاع حياة يومية سوف تفقد هذا العبق، فأرهق والده ماديًا بكثرة تحميض الأفلام في استوديوهات محلية، ثم لجأ لطباعتها في بريطانيا بالبريد -أقل كلفة في ذلك الوقت-، وكان يباهي بصوره فوضعها في "ألبوم" ليقدمها لكل من يزوره، وبعدها بقيت هذه الصور عند يوسف شاهدة كـ"وثائق" على مرحلة من التيه الضوئي الذي مارسه دون ضوابط للصورة المعيارية.

وكما تطارد المصور المحترف عدة أفكار لأعماله حتى في منامه؛ وبصعوبة يحاول أن يتخلص من هَمِّ إنتاجها، فإن الناصر كَبُرَ وكبرت معه هذه الصفة، وتؤرقه أحلام يقظة وإعدادات تتبنى نزعة الإبداع والابتكار، فهي تلك التي تطارد المصور للخروج بلقطات تقصي المألوف من الصور، وهذا ولا شك يحتاج من المصور الكثير من محاولات الترصد الدقيق والتردد على الأماكن المراد تصويرها، تمامًا كالصياد الذي يترصد للطيور الحذرة.

ويضيف الناصر: "إن الصورة أداة تعبير قوية فليعبر بها من لديه رسالة إيجابية يود أن يوصلها للآخرين، فهي ثقافة وقراءة من نوع خاص، وقدرة على تغيير قناعات الكثير من المتلقين، وأصبحت علاقتهم بها إما منتجين لها أو مستهلكين، وهنا يأتي تأثيرها نصًا دون حروف أبجدية؛ لأنها أبلغ من ألف كلمة، ونحن جميعا مؤتمنون عليها.