في إحدى حلقات المسلسل التلفزيوني (طاش ما طاش)، والتي كانت بعنوان: "زيد أخو عبيد"، تناولت هذه الحلقة موضوع الفوائد البنكية، وقد أثار هذا الموضوع جدلاً واسعاً في الماضي ولا يزال حتى يومنا هذا، وإن كان الجدل في الماضي تحت الإطار النظري، فإن الجدل اليوم أصبح واقعاً، بل وتنافسياً بين البنوك الإسلامية والتقليدية على حد سواء.

ولا أبالغ إن قلت إن مسألة (الفوائد البنكية) هي السبب الرئيسي في ظهور ما يسمى بالبنوك الإسلامية، وذلك كبديل شرعي وحلال للتعاملات المصرفية القائمة على الربا الحرام، وعلى هذا الأساس تداركت البنوك الأخرى هذه المسألة وأضفت على خدماتها الصفة الشرعية أيضاً، وردت البنوك الإسلامية على هذه الممارسة بمسألة (ملكية الأموال)، ويستمر التنافس والجدال على هذا المنوال.

وفي خضم هذا التنافس والذي بالطبع لم يكن في صالح المستهلك النهائي (العميل) إلا في نطاقات محدودة، تم تجاهل مسألة مهمة لم يلتفت إليها كلا الفريقين، بل وحتى بعض الاقتصاديين وفقهاء المسلمين للأسف الشديد، وأدّى ذلك إلى استغلال عملاء البنوك، بالإضافة إلى تقديم خدمات بنكية سيئة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوز الموضوع إلى تبادل الاتهامات بمصطلحات (الرجعية) أو (الانهزامية والتبعية للغرب)، أو بحجة أن الآخر غير متخصص في الاقتصاد أو في الشريعة والفقه.

هذه المسألة التي تم تجاهلها تتمثل في مبدأ العدالة و(المحتوى الاجتماعي) المصاحب للربا الذي حرمه الإسلام والتعاملات البنكية، ليقع الغالبية في ظلم أكبر واستغلال لأموال الناس واحتياجاتهم، سواء كان هذا الاستغلال من البنوك الإسلامية أو البنوك التقليدية.

وحتى نفهم المسألة بشكل أوضح، لنأخذ على سبيل المثال قروض التمويل الشخصي، سواء كانت لشراء منزل أو شراء سيارة أو غيرهما، فعند شراء هذه الاحتياجات بالتقسيط من قبل الشركة نفسها تفوق المبالغ المدفوعة لشراء السلعة أقساط القرض لو كانت مستلمة من البنك مباشرةً، هذا من جانب،

ومن جانب آخر، تزيد معدلات الفائدة عند الشراء لهذه الاحتياجات بالصيغة الشرعية المعمولة في البنوك، مقارنةً بأخذ القرض مباشرة من البنك، وبالتالي فإن المتضرر في النهاية هو العميل لزيادة تكاليف القرض عليه، ومهما كان هذا القرض شرعياً أو غير شرعي، المهم في النهاية أن الفرد سوف يدفع ويرهق أكثر بهذه الممارسة، ناهيك عن الإجراءات المتخذة ضده في حال تعثره عن السداد والتي تصل إلى سجنه، وهناك حالات كثيرة لأفراد تم سجنهم بسبب ذلك، وبالتالي أتساءل أليس هناك آلية وممارسة أخرى تكون أكثر عدالة في دفع هذه التكاليف؟ أليس الأمر يحتاج إلى دراسة وبحث أكثر تكون في صالح العميل والبنك مع الأخذ في الاعتبار مبدأ العدالة في التعامل البنكي؟

ولنأخذ مثالاً آخر أيضاً يتعلق بموضوع (الفائدة على الحسابات)، فمن المعلوم أن كثيراً من الناس، يمتنع أن يأخذ فائدة على حسابه الجاري في البنوك، أو أن يفتح حسابات ادخار، أو ودائع آجلة يمكن الاستفادة من عوائدها، وذلك بسبب حرمة هذه الفوائد، والعميل في هذه الحالة يريد فقط حفظ أمواله وضمانها.

ومن المعلوم أن حسابات العملاء تعد من أهم مصادر أرباح البنوك الإسلامية والتقليدية على حد سواء وذلك من خلال استثمار أرصدة تلك الحسابات، وإن كانت البنوك الإسلامية تدعي بأن استثماراتها تتم في مجالات مشروعة، إلا أنه في النهاية يعد البنك هو المستفيد الوحيد من هذه الاستثمارات، والعميل لا يستفيد منها شيئاً، مع أنه يقبل قروضهم ولا يقبل أن يقرضهم!.

والجدير بالذكر أن البنوك الإسلامية تقبل هذه الفوائد في تعاملاتها مع البنوك الأخرى في الخارج، ولكن وجدت لها مخرجاً شرعياً كما تدعي في صرف هذه الفوائد، من خلال اللجان الشرعية الداخلية، والتي تضعف مصداقيتها في مثل هذه الأمور لعدم استقلاليتها عن البنك.

وبناءً على ما سبق، لماذا لا تدرس وتبحث مسألة الفائدة البنكية بحيث ينظر إلى مصلحة العميل في كيفية الاستفادة منها ولو على الأقل أن يتم استخدامها في تقليل تكاليف القروض المستحقة عليه؟، ولماذا لا يكون هناك توعية استثمارية للناس في عمليات الادخار والاستفادة منها في المستقبل سواء لهم أو لأبنائهم؟

وهنا لا أقول بأن الفوائد البنكية حلال أو حرام، فأنا لست مفتياً ولا عالماً ولكن أود تسليط الضوء على مبدأ العدالة في التعاملات الاقتصادية بين الناس ومسألة الظلم الاجتماعي، فالعدالة من أساسيات المقاصد الشرعية في الإسلام، فلماذا لم يتم الانتباه إليها في القضايا البنكية؟، وفي هذا الصدد يقول أحد الخبراء : "كثير من الأدوات المصرفية الإسلامية الآن تحقق الربحية ولكن لا تحقق المقاصد الشرعية، تحقق القوالب الشرعية ولكن لا تحقق المقاصد الشرعية"، وهذا هو الحاصل على أرض الواقع، حيث يتم النظر إلى الأمور بصورتها الشكلية وتجاهل محتواها الاجتماعي، وبالتالي لا يهم أن تكون من الناحية العملية عملاً ضاراً أو نافعاً للناسً.

والسؤال المطروح هنا: كيف يتم تحقيق العدالة في التعاملات البنكية؟.. أعتقد أن الإجابة على هذا التساؤل تتم عن طريق البحوث والدراسات العلمية المتخصصة في هذا المجال، وخاصة أن البنوك هي قوام الحياة الاقتصادية في عصرنا، حيث يصعب أن تقوم حياة اقتصادية منظمة من غير بنوك، ولتكن هذه الدراسات تحت مظلة المعهد المصرفي في المملكة، بحيث يتم إصدار معايير وقوانين بنكية أكثر عدالة، بإشراك جميع الأطراف من بنوك وشركات وعملاء وإقرارها من قبل مؤسسة النقد، ولتكن اللجان الشرعية التي في البنوك تحت مظلة المعهد حتى تكون أكثر استقلالية ومصداقية، وذلك تحقيقاً لمقاصد الشريعة الإسلامية والتي منها العدالة.