استقطاب الاستثمارات الأجنبية واحد من أبرز الموضوعات التي تناولها إعلامنا الاقتصادي في السنوات الأخيرة. ما بين متفائل ومتشائم، نال هذا الموضوع ما ناله من دعم ولحق به ما لحق من نقد. في البدء، كاد يكون استقطاب الاستثمارات الأجنبية هو البنية الأساسية التي قام عليها الاقتصاد الوطني منذ تأسيس الدولة، بدءاً من شركات التنقيب عن النفط ثم الوكالات التجارية الأجنبية وحتى المؤسسات المالية التي لم تتم سعودتها سوى قبل ثلاثة عقود من الزمان فقط. بدأ الاقتصاد السعودي باستقطاب رأس المال الأجنبي قبل الطفرة الاقتصادية، ثم توقف عن ذلك وانصرف إلى تنمية رأس المال الوطني أثناءها، والآن بعد أن رحلت الطفرة عاد لاستقطاب المستثمر الأجنبي مرة أخرى لتنويع مصادر الدخل. الفرق بين مرحلتي ما قبل الطفرة وبعدها هو نوع الاحتياج الملحّ لهذا المستثمر. قبل الطفرة، كان المستثمر الأجنبي هو المنفذ الوحيد لاقتصادنا الوطني حتى يلحق بالركب العالمي. وكان في جعبة المستثمر الأجنبي كل مقومات النهضة الاقتصادية من خبرات ورأس مال وقدرات تنافسية واستثمار آمن. تمكّن اقتصادنا الوطني فعلاً من النهوض في زمن قصير نسبياً مستفيداً بشكل مباشر من هذه الاستثمارات الأجنبية التي قطفنا منها ثمرة مشاريع البنية التحتية الهائلة بالإضافة إلى مؤسسات وطنية تشكّل الأسس الأولية للاقتصاد مثل أرامكو السعودية وأخواتها الصغيرات. حقق الاقتصاد السعودي نقلة مثيرة للإعجاب فعلاً باستغلاله للمستثمر الأجنبي بشكل رائع مهما اعتور تلك المرحلة من أخطاء البدايات. فقد انتقلت الدولة الناشئة من اقتصاد شبه معدوم إلى واحدة من أهم الاقتصادات الناشئة في العالم آنذاك، وتضاعف الدخل القومي للدولة أربعة أضعاف تقريباً في ظرف عشر سنوات، كل هذا تمّ بفضل سياسة اقتصادية براغماتية استطاعت أن تحقق شراكات مفيدة جداً مع كبريات الشركات العالمية استفاد منها الطرفان بطبيعة الحال. وقف الاقتصاد الوطني على قدميه في فترة قياسية بعد أن تدفقت الثروة من كل ناقلة نفط تغادر موانئنا الحديثة إلى كل حدبٍ وصوب، فبدأت الإجراءات الحمائية المتوقعة لتعظيم استفادة الاقتصاد الوطني من هذه الثروة وتقليص ما يتسرب منها إلى الخارج عبر المستثمرين الأجانب الذين لم تعد الحاجة إليهم ملحّة كشركاء بقدر ما استمرت الحاجة إليهم كخبراء. وهكذا بدأت سعودة قطاعات عدة - استثمارياً - وأهمها قطاع البنوك بعد أن صدر قرار ملزم بألا تقلّ نسبة ملاكها من السعوديين عن النصف. تأسست المدن الصناعية التي نعرفها الآن في الجبيل وينبع سعياً للخروج من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الصناعيّ وتقلص دور المستثمر الأجنبي في هذه الفترة وحلت محله كيانات وطنية سواءً تلك المنسوبة لبيوت تجارية معروفة أو شركات شبه حكومية. بعد ذلك انتهت الطفرة بما لها وما عليها ودخلنا في غيبوبة تنموية قصيرة بسبب انخفاض أسعار النفط والتقلبات السياسية في المنطقة؛ لنفيق بعدها فنجد الوضع في العالم قد أصبح عولمياً إلى حد لا يرحم معه الاقتصادات المنغلقة على نفسها مهما كانت ناجحة، وأبرز مثال على ذلك هو الاقتصاد الياباني الذي بدأ يعاني من تصدعات بسبب انغلاقه سوقه المحلية واعتماده المباشر على التفوق الصناعي والتصدير للخارج. عادت الحاجة الملحّة لاستقطاب المستثمر الأجنبي، ليس بغرض المشاركة في البناء والتأسيس من الصفر بقدر المساهمة في تنويع مصادر الدخل وتعزيز التنافسية الوطنية واكتساب الخبرات الجديدة وأيضاً، وهو الأهم، تعويض رؤوس الأموال المحلية التي بدأت تهاجر تباعاً إلى دول الخليج بحثاً عن منافذ استثمارية أفضل.

تبدو الأهداف الداعية إلى استقطاب المستثمر الأجنبي مطلوبة ويتفق عليها الجميع، غير أنهم يختلفون حول الأولويات والإستراتيجيات. فاستقطاب المستثمر الأجنبي ضروري غير أن إبقاء المستثمر المحلي أولى. ولذلك فإنه من غير المعقول تقديم معاملة تفضيلية للأجنبي على السعودي، ليس من وجهة نظر وطنية فحسب بل أيضاً لأن رؤوس الأموال السعودية غير المستثمرة تزيد بأضعاف كثيرة على كل ما تم استقطابه من استثمارات أجنبية في السنوات الأخيرة، وبالتالي فإن تقديم معاملة تفضيلية لرأس المال الأصغر والبعيد على حساب رأس المال الأكبر والقريب هو ضرب من قصر النظر لا يمكن تبريره، في الوقت الذي يحتقن فيه سوق الأسهم السعودية بأموال حائرة، وتتكدس في البنوك السعودية ودائع لا تجد سبيلاً إلى استثمار آمن، ثم نلجأ بعد ذلك لاستقطاب رأس مال أجنبي حذر وجبان ومتطلّب. الأدهى من ذلك أن بعض الشركات الحكومية الكبرى في السعودية بدأت تدخل في شراكات وتحالفات إستراتيجية مع شركات أجنبية منافسة لشركات حكومية أخرى في الوطن بدون مبرر حقيقي. وإذا تجاوزنا هذا الخلل في الأولويات فهناك أيضاً خلاف حول إستراتيجية الاستقطاب التي تقوم حتى الآن على مبدأ الإغراء بالطاقة الرخيصة والعمالة منخفضة التكلفة. هذه الميزة التنافسية التي يسوّق الاقتصاد السعودي نفسه من خلالها تكاد تكون الوحيدة بالنسبة للمشروعات الصناعية على الأقل، ولكن إلى أين يقودنا هذا؟ في الوقت الذي يتكبد فيه الاقتصاد خسائر كبرى من جراء استمرار الدعم الحكومي للمشتقات البترولية للاستهلاك المحلي، فإن هذه الخسارة مرشحة للزيادة إذا اشترك المستهلك الصناعي مع المستهلك الفرد في استنزاف الثروة النفطية بسعر منخفض عن سعرها العالمي. كما أن العمالة منخفضة التكلفة لن تكون من المواطنين السعوديين بطبيعة الحال، وبالتالي فإن كل مستثمر أجنبي يضرب بأطنابه في السعودية سيجلب معه جيشاً صغيراً من العمالة الوافدة تفاقم أزمتنا مع البطالة والاتكال شبه الكامل على أيد أجنبية.

حتى الآن ما زالت معايير استقطابنا للمستثمر الأجنبي (كمّية) ومعتمدة على لغة أرقام لا يسهل ربطها بشكل مباشر مع القيمة الإستراتيجية المتوخاة منها، ولم نصل بعد إلى معادلة (كيفيّة) متقنة تجعل من كل استثمار أجنبي قيمة مضافة إلى الاقتصاد الوطني يلمسها المواطن السعودي في حياته اليومية، كما كان يلمسها فعلياً قبل سبعين سنة عندما كان الاستثمار الأجنبي فاعلاً وضرورياً وموجهاً بشكل يضمن رخاء المواطن ورفاهيته، وليس استعراضاً بيانياً يمارس في المؤتمرات الدولية والمعارض المحلية ومانشيتات الصحف ثم لا يجد ذلك كله سبيلاً إلى مواطن يبحث عن عمل وفرص.