تتداول كتب الأدب تقريظا لأحد المشتغلين في النحو واللغة. يصف فيه أستاذه الذي صحبه زمنا وأخذ عنه: (كان يُسأَل ويُقرأ عليه فيجيب من غير كتاب.. ولزِمتُهُ بضع عشرة سنة ما رأيت بيده كتابا قط).. والشاهد في هذه الإشادة بالعلم الغزير هي هذا الكتاب الذي لم يره التلميذ بيد معلّمه. وإذا قرأنا هنا الانتصار للثقافة الشفويّة، إلا أن المسألة أبعد ولا تتصل بمجال اللغة والإحاطة بعلومها والإلمام بدقائقها وشواردها وغريبها. إنما هي نوعيّة من التفكير تسيطر على واقعنا في تاريخ طويل يعيد صفحاته بالوجوه ذاتها التي (ما رأينا بيدها كتابا قط)!! ومنصرفة عن زمانها ومكانها وما يمور فيهما من أحداث تقتضي بإعمال التفكير وإعادة النظر في الذاكرة التي لا تحتوي إلا على الصور القديمة وتريد أن يستجيب الواقع الآني إليها استجابة الظل للأصل، وأن يتماهى معها متنازلا عن حصّته في الحياة والعيش المختلف؛ فلا يعود هو.. كائن غريب يصدر همهماتٍ غير مفهومة ويطلّ بسحنةٍ غريبة لو اطّلعتَ عليها لوليّتَ منها فرارا ولملئتَ منها رعبا.. كائن جسدُهُ في الحاضر لكنه يريد أن يعيش في زمنٍ غابر وأن يتعامل بعملة ذاك الزمن التي لم يعد لها وجودٌ ولا تأثير.

هذا مربط الفرس.. استمراء ما باليد واستساغته والنظر إليه على أنه كل شيء وهو المستودع والمرجع، والحقيقة لا تفارق صفحة الكف القابضة على ترابٍ، ولفرط المغالاة في هذا التراب ومن شدّة المحافظة عليه وإغلائه تحوّل إلى تِبْرٍ يبزّ الدنيا وما فيها من كنوز.. هنا تعلو نبرة الاستغناء وعدم الحاجة إلى الآخر واللامبالاة ورفع أنف التيه قبالة ما يتغيّر ولا يثبت على حال كما هي سنّة الحياة في التحوّل والصيرورة والاستجابة بما يناسب تبعا للظرف وشروطه التي تحكم حركة الإنسان من أجل أن يعيش وأن يستمر بخلايا متجددة حيّة.

نعرف أن الوقوف في المكان ذاته والمراوحة فيها ليس سيرا، ولن يبلّغ صاحبه مطلبا ولن يوصله إلى نقطة أخرى سوى أن يفاخر بمقدرته العجيبة على ملازمة الوقوف وادّعاء الحياة!! فيما الآخرون يمرون ويتعجبون ويمضون صعودا وإنجازا، ويبتعدون مئات السنوات في أشواطٍ متتابعة من العمل والإضافة والنمو، معرضين عن صورة الوهم بالاكتمال، فهناك،بالتأكيد، نقص دائم ورغبة حثيثة في مواصلة التحسّن وابتكار الجديد

نعرف أن ما لا ينمو يتعفن.. لكن هناك من يرضى ويفاخر بالأطباق البائتة التي ضربها العفن منذ زمنٍ بعيد..بعيد، ويقبل عليها بشهيّة منقطعة النظير!!