عندما يظهر سليمان العيسى على شاشتنا الأم، تلتصق العيون بالشاشة، وتتواتر جملة: "أص خلونا نسمع العيسى إش عنده"، ويعمّ الترقّب على مشاعر المشاهدين كلّهم، على اختلاف اهتماماتهم وميولهم؛ ذلك أن ظهوره ـ وهو يثبّت شماغَه على كتفيه حتّى كأنّ طرفيه ثُبّتا بمسمار ـ يعني أحد أمرين: إمّا البشارة بخيرٍ يشبه الرعد، وما يليه من الومض والماء "وكلّ شيء حي"، يجعلُ القلوبَ تلمع سعادةً كما تلمع لؤلؤةٌ في كفّ بحّارٍ قديم، وإما الرهبة من خبرٍ يسوء وينوء، ويجعلُ القلقَ يتسلّل إلى قلوب الملايين، حتّى كأنّ في قلبِ كلّ مواطنٍ قنبلةً توشك أن تنفجر.

في حرب الخليج، أرادَ سليمان العيسى، أن يحذّر المواطنين من "سكودٍ" آت، فارتبك بشكلٍ لم يعتده منه المشاهدون، وكان ارتباكه سبباً في تحوّل المنازل إلى ملاجئ، وقد سئلَ عن سبب ارتباكه ذاك؟ فبرره بطريقة ضابط الدفاع المدني ـ الذي كان معه في الأستوديو ـ في إيصال المعلومة إليه، ليصير ذلك الظهورُ المرعبُ حديثَ المجالس، عبر السنوات اللاحقة حتّى كتابة هذه الحروف.

تقول معلومةٌ مخزونةٌ في الخلايا البعيدة من الذاكرة: إن سليمان العيسى كاد يكون أكاديميّاً بجامعة الملك سعود، بيد أنه اختار تحويل مساره ميمّما طموحاته شطر الإعلام، وتلك كما يقول "رغبته وعشقه منذ المرحلة الإعدادية، وحتى ما بعد الجامعة" إذ "بدأت خيوط هذه الموهبة وهو على مقاعد الدراسة المتوسطة والثانوية"، فكان له ـ حين خضع للميل، واختار ما يحب ـ أن أصبح المذيع الأهم، للخبر الأهم، وصار مستشاراً بالديوان الملكي. قبل أن يكون سليمان العيسى مع الناس، لم يكن إعلامنا الرسمي، يعرف شيئاً اسمه النقد، وكانت الشاشة الوحيدة ـ حينئذ ـ لا تعرض إلا نصف الكأس، فيما تُعرض عن نصفه الآخر، وكأننا لا نعاني، أو نطمح، أو نخطئ، حتّى كان برنامجه "مع الناس"، أنموذجا للمكاشفة، وطريقاً إلى نقد الذات الجمعية، من خلال تسليط "الزوم"، وتقريب "المايك"، من مشكلاتنا اليوميّة مع الخدمات، والواسطات.

كان المتابعون لشاشتنا الأم، ينتظرون "مع الناس"، أسبوعاً بعد آخر، لسببين: أحدهما جرأته، وقدرته على كشف مواطن الخلل، والآخر: جرأة العيسى وذائقته الشبابية، في اختيار الفواصل الغنائية العربية الجديدة، لفنانين من الشام ومصر، وذلك ـ في تلك الفترة ـ جديدٌ حقيقي، لأنه لا نوافذ لنا ـ حينئذٍ ـ إلا "أمّنا الشاشة".

سليمان العيسى، ذو الصوت النحاسيّ الفريد، بدأ حياتَه الإعلاميّة معلّقاً رياضيّاً ذا طريقة في الوصف ليست إلا له، وارتبط صوته في ذاكرة الحانين بأسماء اللاعبين في تلك الفترة، إلى الحد الذي يجعل بعض المتابعين القدماء، لا ينطقون أسماء بعض لاعبي تلك الفترة، إلا بالطريقة التي كان ينطقها بها سليمان العيسى.

يأخذون عليه تشدّده في شروط قبول المذيعين، وتلك له لا عليه.

ويأخذون عليه التعامل مع الأخبار والمناسبات والاحتفالات المهمة، بوصفها حقّاً خاصّاً، لا يحق لأي مذيع التعدي عليها، أو التفكير في الإسهام فيها، وتلك ـ إن صحّت ـ عليه لا له.

وبعيداً عما له أو عليه، نسأل سؤالاً افتراضيّاً هو: لو أن سليمان العيسى عاد إلى الميدان ببرنامج مع الناس، فهل سيحقق نجاحاً يوازي أو يفوق أو يدنو من نجاحه الأول؟ لا أحد يمكنه أن يتوقّع ذلك، لأن الحال غير الحال، والوسائط غير الوسائط، ومؤشّر الشفافية ـ الآن ـ أخضر متصاعد يرتفع، ومعه يرتفع السقف نحو السماء، ولذا يصبح السؤال عن عودة "مع الناس"، مشوباً بصبغةٍ صفراء ساذجة، على الرغم من أن العيسى يجاملُ سائليه بدبلوماسيّة الروّاد، ويقول: "مع الناس" عشت معه وعاش معي أحلى سنوات عمري، وقد عايشت هموم الناس وقضاياهم، وكثير يلحون بطلب عودته، وما زلت أفكر في هذه العودة من جديد لكن لا أدري متى.

وبعيداً عن كلّ الأشياء؛ يبقى سليمان بن محمد العيسى، أوّل الخارجين من الصدفة المملوءة بالأصداف، وأقدر من حوّل الرهبة من ظهوره، إلى حبٍّ واحترامٍ لشخصه، ولمسيرته المكتظة بالأحداث والمواقف والمحطات.