ما الذي يجعلك تنصرف عن أكداس الكتب التي تتراكم من حولك وتنتظر دورها في القراءة، فتجد نفسك مدفوعا إلى إعادة قراءة كتابٍ لم يمر زمن طويل على إنجاز قراءتك الأولى؟.. هل هذه الإعادة برهانٌ على راهنيّة الكتاب أو أن اللحظة التي تعيشها تحتاجه أو هو اختبار لانطباع تريد تمييزه ثانيةً؟..

مهما تكن الأسئلة وإجاباتها؛ وجدتُني أعيد تصفّح ثم القراءة الكاملة لمجموعة عدي الحربش "حكاية الصبي الذي رأى النوم" الصادر في سلسلة الكتاب الأول عن نادي الرياض الأدبي.

كتاب الحربش المؤلَّف من ثماني عشرة قصة في 230 صفحة ينزع إلى تكوين شفاهي يستدعي قالب الحكاية المنقولة من تراث شعبي أو إنساني عام ـ عربي وأجنبي ـ أو من تجربة محليّة بما هي ذاكرة تقع في المسموع أو المقروء. ما هو سرّ الكيمياء أو الخيمياء التي وضعها الكاتب في حكاياته حتّى غدت على هذا النحو من الجاذبيّة وعلى هذا المقدار من المتعة التي لا تنغلق نافذتها مع نهاية السرد؟

في مطلع حكاية "عندما أفاقت الجميلةُ النائمة" نقرأ: (... حكاية قد تخال أنك سمعتَ بها، أو بما يشابهها، ولكني أؤكّد لك أنك لم تفعل). هذا التأكيد ينسحب على مجمل حكايات الحربش. ثمّة متنٌ يحيط به القارئ لكنه في لحظة من لحظات السرد ينقطع وينبتُّ الخيط الواصل بالمرجعيّة. تأخذ المخيّلة نول الحكاية وتنسج من جديد، فإذا بنا قبالة حكاية طازجة نمتْ لها آلاف الأجنحة وأمامها فضاء للتحليق لم يكن لها من قبل.

حكايات وقصص وأساطير استقرت في الذهنيّة العامة والثقافية على صورة واحدة، يخرجها عدي الحربش ويطلقها في بريّة المخيلة جامحة ويعوّمها في سديم التأويل. الكاتب يغادر طاولته ويتلبّس بدور القارئ. الكاتب في معناه الواحد يتذرّر في روح القارئ؛ فتنكتب حياة جديدة بتفاصيل لم تخطر على بال من حكى لأول مرّة. ما هو ناجز ومستقر عندما يدخل مختبر المخيّلة يتحلّل إلى مكوّنات أخرى تحتفظ بلمعة الحكاية الأولى ولكن في إهاب لا تبلى جدّته. كتاب "حكاية الصبي الذي رأى النوم" بقدر ما يشير إلى قابليّة الحكاية لأكثر من قراءة؛ فإنه يستبطن مركزيّة الاستيلاد ويترجم معنى "اللانفاد" الثاوي في المحكيّات. ثمّة خيط رهيف كامن متروك في الثنايا، تعرف اليد المبدعة كيف تستلّه وتعيد تلوينه ضمن مركّب يخصّها، وفي نفس الوقت هناك استقلاليّة لهذا المركّب بحجم ما يعد به من تكاثر المعنى الذي برهن عليه عدي الحربش نفسه في هذه المجموعة الممتعة الرائعة.