في العام 1994، دُعيت إالى الحفل الذي أقامته "رابطة صحفيي البيت الأبيض" على شرف الرئيس الأميركي بيل كلينتون، وكانت رئيسة الرابطة، في تلك السنة، الصحفية المعروفة هيلين توماس، وقد دعتني للحفل لأن البرتوكول يمنحها حق استضافة رئيسها، فدعتني شخصياً للجلوس بجانبه بصفتي مالك "وكالة يونايتد برس" آنذاك.

تحدثت مع الرئيس كلينتون في شؤون الإعلام وسألني عن تجربة "أم بي سي" التي كانت في بداياتها، وعن الأسباب التي دفعت بي إلى تأسيسها. كما تساءل الرئيس عن كيفية التعامل العربي مع تحدّيات البث الفضائي التلفزيوني، الذي كان في سنواته الأولى في منطقتنا، فذكرت له بعض تلك التحدّيات والمصاعب التي تواجهنا، مثل الحساسية المفرِطة من قبل بعض الأنظمة والحكومات العربية تجاه قطاع "الإعلام والترفيه" عموماً، والنزعة لمحاربة البث الفضائي والحد منه، لا بل ومنعه، خصوصاً... من قبل أفراد وجماعات هم اليوم أكثر الناس تهافتا للظهور عليه واستهلاكاً لمحتواه! علّق الرئيس كلينتون بأن سياسة المنع هذه لن تجدي نفعاً، وأن البث الفضائي هو أوّل الغيث، وأن التغيير آتٍ لا محالة، عبر تعاظم "ثورة المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا". وأذكر جيداً أنه قال لي يومها: إذا لم تُغيّر الدول العربية سياساتها تجاه شعوبها، فإن الإعلام والإنترنت والتكنولوجيا سوف تغيّرها رغمًا عنها!

واليوم، تدفع بعض الأنظمة العربية الحديدية ثمناً غالياً لتعنّتها وتجاهلها لفرص الإصلاح والتطوير التي طرقت بابها أكثر من مرّة، من دون أن تمنحها أدنى اهتمام، إذ أصرّت تلك الأنظمة على رفض مطالب الدولة المدنية الحديثة، إلى أن جاءت لحظة الانفجار، والتي لم تعُد تنفع معها الدعوات المتأخرة إلى الحوار، ولا يمكن أن توقفها عمليات القمع الأمني. ومن بين أكثر الأمور إثارة للاستغراب، أن هذه الأنظمة شعرت بالمفاجأة والصدمة حين وجدت نفسها في مواجهة الاحتجاجات الشعبية، رغم أن شواهد التاريخ تؤكد أن الهدوء القسري الطويل غالباً ما تتبعه عاصفة تقتلع الأخضر واليابس. اعتقَدَت أن سياسة التعتيم والإنكار في زمن ازدحم بوسائل التواصل والإعلام الشعبي سيحميها!

يصعب التكهّن حالياً ما إذا كان "الربيع العربي" سوف يقود الدول في نهاية المطاف بإتجاه مزيد من الحرية والاستقرار والازدهار، أم أنه سيقودها باتجاه الفوضى والتشرذم. فالنتيجة النهائية تعتمد طبعاً على وعي الشعوب وقدرتها على التخلّص من ثقافة الثأر والانتقام والتشفّي، وعلى بناء أسس الدولة والحكم الصالح فيها. فالتحدي الفعلي الذي يواجه الشعوب العربية اليوم، لا ينتهِي بـ "إسقاط النظام" المستبد، بل يبدأ فعليا لحظة سقوطه! ولا يمكن الوصول إلى غد مشرق ما دمنا منهمكين بتصفية حسابات الأمس، بدل البناء للغد، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الأنظمة الشمولية غالباً ما تسيطر على كافة مجالات الحياة، وأن عددا كبيراً من المثقفين، ورجال الدين، ورجال الأعمال، مرتبطون بالنظام، بشكل أو بآخر. لذا، فإن مطاردة كل هؤلاء مجتمعين أو منفردين، ومحاولة إقصائهم عن الحياة العامة، بحجة أنهم من "فلول النظام السابق وأعوانه"، يُغرق الدولة الناشئة في صراعات لا تنتهي. ويبقى العراق مثالا صارخا على ذلك، حيث استغلت بعض الأطراف قانون "اجتثاث البعث" لتصفية الحسابات الشخصية والطائفية والحزبية، فأدخلت البلاد في نفق مظلم، بدل أن تضعه أمام غدٍ مشرق يستحقه أهل البلد.

إن نهج السماح والمسامحة والعفو عما مضى ضروري، خاصة حين تبدأ الدول مرحلة جديدة من تاريخها. وعندما نستعيد صفحات من تاريخ تأسيس المملكة العربية السعودية، نجد أن الملك عبد العزيز كان حريصاً على العفو عن خصومه، رغم كل حروبه الدامية معهم... فكان يردّد القول الشهير: "خضرا وعليها جلالها" للدلالة على العفو العام، وهي السياسة التي حرص عليها أبناؤه من بعده، فكان أول قرار اتخذه الملك عبد الله بن عبد العزيز عند توليّه مقاليد الحكم، هو العفو عن الضباط الليبيين الذين حاولوا اغتياله.

في كل الأحوال، عندما أستعيد حديث الرئيس كلينتون معي، قبل عشرين عاما، أجد فعلاً أن "ثورة المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا" خلخلت الأنظمة العربية الحديدية تدريجياً، وأتى التغيير على قدر التوقعات والآمال، علماً بأن التحدّي مازال قائماً لمواكبة هذه "الثورة"، ومواجهة المعوقات التي تحدّ من انتشار الإعلام وتطوّره. ونحن ندرك من تجربتنا أن "الإعلام الجديد" الرَقَمي يحمل في طيّاته تحدّيات أمنية وسياسية واقتصادية وتشريعية وتنموية، يجدر بنا معالجتها بجرأة وسرعة وفعالية. وبموازاة ذلك، أستغرب كيف أن الأنظمة العربية الحديدية بقيت أسيرة الأفكار القديمة والصراعات العقيمة، ولم تستوعب حجم التغيير الذي يمكن أن تحدثه تلك "الثورة" في عالمنا. وأستغرب أيضاً كيف أَصرّت على تفويت الفرص السانحة التي يبتدعها الإعلام "التقليدي" و"الجديد" يومياً، وتختزنها صناعة المحتوى، وتوفّرها سرعة انتقال الأفكار والرساميل والتكنولوجيا العابرة للحدود والقارّات...

لكن، سرعان ما تخف حدّة استغرابي من أداء بعض هؤلاء الحكّام الحديديّين، الذين لم يقرأوا المستقبل جيدا، حين أتذكر أن كلينتون نصحني شخصياً بالاستثمار سريعاً في الإنترنت أو "الإعلام الجديد" الرَقَمي، لكنني لسوء الحظ، لم آخذ بنصيحته، بل آثرت التركيز على الإعلام الفضائي وتطويره وازدهاره، على مرّ السنين، علماً بأن العائد على الاستثمار في أسهم ومشاريع تلك الشركات الناشئة آنذاك، والتي أصبحت مُتمكّنة ومعولَمة اليوم، وصل مع الوقت إلى حوالي الـ 1000 ضعف للسهم الواحد!