بداية، لنتأمل معا هذه العبارات: العبارة الأولى: (أكدت الإحصاءات في السنوات الخمس الأولى من الابتعاث السعودي بلوغ العدد سبعين ألف مبتعث ومبتعثة في مختلف دول العالم)، العبارة الثانية: (أصبحت المملكة متقدمة على اليابان والولايات المتحدة الأميركية في عدد المبتعثين)، العبارة الثالثة: (أصبحت المملكة تحتل المرتبة الأولى بين دول العالم في الابتعاث مقارنة بعدد السكان، إذ تبلغ نسبة المبتعثين إلى عدد السكان في المملكة 0.03% )، العبارة الرابعة: (يجب أن نعتز بأن برنامج الابتعاث الخارجي في المملكة وضع بصماته بقوة على الخريطة العالمية كدولة تضع الاستثمار في بناء الإنسان في قائمة أولوياتها)..... وتزداد اللغة الطوباوية، المشاهِد لها والمتأمل فيها ينصهر معها، ويعيش الأحلام الوردية في حال اليقظة، ولا يبقى إلا أن يضيف عليها عبارة: ( أخيراً لقد دخل الابتعاث السعودي في موسوعة جينيس للأرقام القياسية).

إنني أتساءل: لماذا نُصر على لغة كهذه ونحن في بداية الطريق؟ - صحيح هناك تطور ملحوظ ومُقدر في هذا الميدان بقيادة خادم الحرمين الشريفين بتمديد مدة الابتعاث، كل ذلك قناعة منه بأن التعليم هو العنوان الرئيسي لنهضة البلاد- لكن هذا لا يعني أن نتفنن في عرض العبارات الرومانسية حول التعليم والابتعاث، والواقع شاهق، ولكم أن تلاحظوا هذا بمجرد أن تضعوا أناملكم على محرك البحث "قوقل" وكتابة عنوان: "الابتعاث" إلا وتجد سيلاً ينهال عليك من المقالات النقدية التي تتحدث عن شؤون المبتعثين والمبتعثات، ورسائل الاستجداء والاستنجاد للواقع المادي الصعب الذي يعيشونه أثناء دراستهم والتي قد ملأت وسائل الإعلام المطبوعة منها والإلكترونية، وكذلك المشاكل المادية لعلماء المستقبل من المبتعثين والمبتعثات وهم من يعول عليهم كثيراً في مجال البحث العلمي منذ لحظة انطلاقتهم وحتى عودتهم، والطريق شائك ومحفوف بالخوف من المستقبل المجهول، فبين هاجس الغربة وعدم الثقة يتورط المبتعث، عدم الثقة يتجلى بدءاً من إمكانية تحمله عناء الهموم المالية وصولاً إلى عدم الثقه فيما إذا كان المردود بعد ذلك يستحق كل هذا العناء! ناهيك عن شكاوى الطلاب المتكررة مع الملحقيات الثقافية والتي وُجدت في الأصل لراحة المبتعث، تجدها متميزة في عدم التواصل مع الطلاب، وعدم الرد على اتصالاتهم واستفساراتهم، وعدم الاهتمام بمشاكلهم، فضلاً عن التعامل معهم بفوقية غريبة.. والنتيجة أنك لا تجد الإجابة الشافية! سوى ترديد:

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

ولو نار نفخت بها أضاءت

ولكن أنت تنفخ في رماد

ثم ماذا عن البيئة المحلية التي ستحتضن هذا المبتعث بعد عودته! وخصوصاً أننا مازلنا نعاني أشكالاً وألواناً فاقعة من العوامل المعيقة للإبداع والاندماج الحضاري، من البيروقراطية والعقلية القديمة التي تعيش علاقة الأزمة بين الرئيس والمرؤوس، البيئة المثبطة لجامعاتنا، فكم من مبدع مكتشف في بلد الابتعاث ثبط نفسيا عندما عاد لأرض الوطن؟ كيف يُرجى من المبتعث أن يستثمر إمكاناته التي اكتسبها عند عودته لبيئة لا يراهن على انفتاح مجتمعها، أكثر من المراهنة على الاصطدام مع ما قد يأتي به هذا المبتعث من مفاهيم ثقافية جديدة؟

أين هي المؤسسات الخاصة المعنية بمتابعة المبتعثين لحظة بلحظة منذ ابتعاث أحدهم وحتى عودته؟ أين هي المؤسسات التي ستستوعب المبتعثين لضمان استمراريتهم في الإبداع والعطاء العلمي والمحافظة على المعنويات المرتفعة التي جاؤوا فيها من بلد الابتعاث؟ هل هناك برامج تحضيرية جادة لتهيئة المبتعث لتطوير البيئة المحلية؟

إنني أتساءل: بعد كل هذا العرض: هل تراهنوا على الابتعاث؟ عدم المراهنة على الابتعاث! لا يعود - بالطبع - لتسخيف دور العلم الذي سيأتي به أبناؤنا، ولا أدعو هنا لتقليص العدد على طريقة عقلية (الأبيض والأسود)، لكن إدراكي بأن التخطيط لبرنامج ابتعاث بهذا الطموح وبهذا الشكل يحتاج إلى منظومة متكاملة من التدابير حتى نصل إلى الهدف المنشود، وليس فقط التباهي بالكم على حساب الكيف، لتكون النتيجة: بدلاً من أن نفرح بعودة مئة ألف مبتعث من الخارج سنستبشر بمئة ألف مشكلة من الداخل!