له لغتان: إحداهما رقيقة تتثنّى، كأنّها غصنٌ تطلع منه فراشاتٌ ملوّنة، ومنها تتبرعم الصُّورُ، لتتراكم حتّى تصيرَ غيمةً تتربّع على عرش، فتأخذ القلوبَ إلى حقلٍ من موسيقا اللغة التي تنصتُ إليها الأرواح قبل الآذان.

والأخرى، "كجلمود صخرٍ"، وفيها عقدٌ تشبه درجات السلّم، وكأن قارئها يضع عقله على درجةٍ ليصلَ إلى أخرى، وقد يقف، لأنّه أمام لغة محمد جبر الحربي التي يخطها بمبادئه الجمعية العتيقة؛ فهو عروبيّ حتّى الخليّة القصوى، ويبقى عروبيّاً كلما أراد أن يبثّ رأياً حول الأحوال والمآل.

لغة الحربي الأولى، هي قصيدتُه، أو "خديجته"، أو هي "ديوان شعره"، الذي يقول ما يقوله الحب، أو "ما لم تقله الحرب"، حيث يكثر تساقط الأمطار البريئة على صفحات الأفئدة، لتأتي القصيدة محملةً بالكثير من الطفولة العذبة. زاخرةً بـ "خديجة" التي كلما جاءت، مع كلّ قصيدة، "طلعتْ فتاة الليل من صبح الهواء، فأورقت تيناً وزيتوناً وألقت للنخيل تحية الآتين من سفرٍ فأينعت الوجوه شقائق ونمتْ حبيبات الندى؛ مطراً على تعب القرى"، حتّى إنّ شاعرَها "نسيَ التطلعَ للقمرْ"، لأنّها "طلعت على مد البصرْ".

"خديجة" "الحربي"، ليست امرأةً، وحسب، وليست قرينةً فقط، وإنما هي "الحربي"، الذي يفقد "الحربي"، إن لم يكن هي، وتكن هو، وكأنهما اشتقاقٌ من ثنائياتٍ لم يعد العصر يسمع بها، وإن كان يرويها عن الراحلين الأوائل كما تُروى الأساطير الخارجة عن قشرة الواقع.

أمّا لغته الثانية؛ فهي "ديوان نثره"، وهي لغة "الريح" لا "المطر".. لغة الموقف لا الشعور.. بل إنها كلام الأرض مكتوباً.. لغةٌ كالفأس يحفرُ أنحاءنا علّه يجد فينا موضع استفاقة، لغةٌ ترفضُ أن نتناهب، أو نتصارع، أو نتخاذل، أو نسقط في هاويةٍ نكون فيها بلا هويةٍ وانتماء، لغةٌ آتيةٌ من أعالي التاريخ، تربطنا بما كان لنا، وتعيدنا إلى كينونتنا بوصفنا حضارة.

يغيب محمد جبر الحربي، حين يرى أن من الحكمة أن يطول الغياب، حتى نتوهم ديمومة غيابه، ويعود فيكون "أجمل العائدين" إلى أهله، إلى "أغصان بوح الكتابة".. يعود "يهزّ الغصون ويدني الثمرْ "، يعود ليقول: "ويبهجني أنني سيدٌ في الحضور"، لأنه حين يظهر، يشيع الإيمان بأنه لا ظهور يشبه ظهوره؛ إذ يتبعه الشعاع، ويفد معه فرسانٌ سابقون، وعروبةٌ مُقعدةٌ يمارسُ معها "العلاج الطبيعي"، علّها تترك الجلوس على طبقات التاريخ، وتمشي.

ترى ثلةٌ من النخبة أن الحربي يريد من نهر التاريخ أن يجري معاكساً لمعطيات الأيام، فيصر ـ في عصر العولمة ـ على اللغة والهوية، ويعيد القولَ في الحضارة العربية الإسلامية، بل ويكرر الكتابة عن "فلسطين" التي كانت، ويصر على رفض الحرب على "الأمة"، فيما يرى واحدٌ هو "هو"، أنّ النهر جامدٌ وحسب، ولا يحتاج سوى لغةٍ حارّة، وشيءٍ من "حديث الهدهد"، تعيد ماء النهر إلى الجريان في مساربه البدهيّة.

محمد الحربي، باقٍ على العطاء، والصدق العتيق، والإصدارات، والشعر، "ورسائل نصية" يومية، تراوح بين لغتيه ـ بلا عدالة ـ، وشيء قليلٍ من الصحافة.

محمد الحربي، مزاجٌ متفاوت، وما يزال المبدعون بخير ما تفاوتوا.