قبل الدخول في الصُلب أود الاستفتاح بكلمة منيرة للأديب مصطفى صادق الرافعي ضمن كلامه عن [فلسفة الصيام] والذي أسميه [الصيام فلسفة] كما في كتابه (وحي القلم 67/2) حيث يقول: (... شهر هو أيامٌ قلبيةٌ في الزمن، متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله: هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي، فيُقبل العالم كله على حالة نفسية بالغة السمو)..
ولكلمة (أيام قلبية) أهمية قصوى أكد عليها حين قال في تتمة ذلك: (...الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا، وإنما يختلفون ببطونهم أحكام هذه البطون على العقل والعاطفة، فمن البطن نكبة الإنسانية، وهو العقل العملي على الأرض، وإذا اختلف البطن والدماغ في ضرورة، مدّ البطن مدهُّ من قِوى الهضم فلم يُبقِ ولم يذر) وصدق فإن المعركة تحتدم بين العقل والمعدة كلما دخل رمضان! لأن هذه المعركة فيما عدا رمضان محسومة لصالح البطن غالباً! ومن هنا قال أيضاً: (... رمضان معجزة إصلاحية تقضي أن يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن 30 يوماً في كل سنة، ليحلّ في محله تاريخ النفس).
لا ريب عندي أن فكرة هذه المعركة مستوحاة أصلاً من مفهوم كلمة (التقوى) فأنا من الذين يختارون تفسير التقوى التي جعلت غاية للصوم لأنها من (الاتقاء) أي التوقي والاحتماء، وفي ذلك يقول أديبنا الرافعي: (... التقوى في رمضان من الاتقاء، فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كل الحيوان الذي شريعته معدته)!
لذا شيوع البهيمية كسلوك رمضاني واضح في حالة الهلع الجوعي المسيطر نهاراً. ولا أدل من مظاهر الزحام وتكثفه حيث شؤون المعدة هي السائدة! فهل سبق وأن رأينا ازدحاماً شديداً واكتظاظاً عند مكتبة نهاراً؟!
وعليه.. تتابع الأيام ولا تزال المعدة منتصرة، انتصاراً يُعلن خسارتنا في اتجاهات عدة لأعلى صعيد العقل فحسب بل حتى على صعيد الروح، بل وعلى صعيد المعدة ذاتها (إن لمعدتك عليك حقاً)!
ولا يخفى أن الجوع الرمضاني مُراد، فهو معلم حقيقي جاء ليُرقينا إلى مستوى القدرة على التخفف والتقلل الاختياري، والتخلق بخُلق اقتصادي تهذيبي هو (الاكتفاء بما تيسر) والذي من شأنه أن يحررنا من نوازع الأثرة والاستئثار، اللذين أضعفا شعيرة التكافل في مجتمعاتنا، حيث ساد الفتور الإيثاري وانخفاض وتيرة الإحساس بالغير لدرجة الذهول.
وماذا لو أحدثنا فرقاً في المثل المشهور ليصبح هكذا (البطنة لا تزاحم الفطنة).