-1-

سوف يكون القرن الحادي والعشرون مزدحماً بالمفاهيم والأفكار والآراء والمدارس الفنية والأدبية والفلسفية أكثر من أي قرن مضى في تاريخ البشرية. وذلك لعدة أسباب على رأسها ثورة المعلومات والاتصالات التي تحققت في نهاية القرن العشرين وبداية هذا القرن. وهذه الثورة ليست عاملاً مساعداً فقط على التغيير والإصلاح السياسي كما نرى الآن في العالم العربي، وإنما هي طريق إلى تكوين وبناء مفاهيم جديدة ومدارس فكرية وفلسفية وفنية وأدبية جديدة. لقد كان بناء هذه المدارس والمفاهيم الجديدة في الماضي بطيئاً ومتعثراً في بعض الأحيان، نتيجة لصعوبة الاتصال بين الماضي والحاضر. وفي حالة سهولة الاتصال كان هذا الاتصال بطيئاً يتطلب وقتاً طويلاً لكي يتم. أما اليوم فالعالم كله بكل ما يحتوي بين يدي كل فرد منا، يستطيع به أن يكوّن ما يشاء ويركب ما يشاء وبسرعة برقية، دون أن ينتظر طويلاً. فتشكيل العالم الجديد في الماضي كان يعوقه توفر المعلومة وبسرعة. إذ بدون هذه المعلومة كان الباحث في ظلام دامس، لا يعلم شرقه من غربه، أو شماله من جنوبه. واليوم عندما توفرت المعلومة توفراً هائلاً لا مثيل له في السابق أصبح بناء المدارس الفكرية والسياسية والفلسفية من الأعمال السهلة واليسيرة.

-2-

طفق الباحثون والمفكرون والفلاسفة في بداية هذا القرن يبحثون عن القيم الجديدة لهذا العصر، فوجدوا أن قيم هذا العصر سوف لا تختلف كثيراً في القيم العامة - خاصة - عن أي عصر سابق آخر. فالخير هو الخير، والشر هو الشر، والعدالة هي العدالة. ولكن من المؤكد أن القيم الخاصة بكل بلد وبكل مجتمع سوف تختلف اختلافاً واضحاً. فرغم العولمة، ورغم أن العالم أصبح قرية كونية واحدة، ورغم إزالة الكثير من السدود والقيود، إلا أن القيم الخاصة لكل مجتمع ستظل متميزة ومتفاوتة. وكما قلنا في مقال سابق، فإن لكل أمة قيمها الخاصة وقيمها العامة. وفي كلتا الحالتين يجب أن يكون التسامح لبّ القيم العامة والخاصة. وأن لا تكون القيم الخاصة مدعاة لإيذاء الآخرين لعدم أخذهم بها. ومتى أصبحت القيم مدعاة لإيذاء الآخرين والعدوان عليهم، لمعارضتها لقيمهم الخاصة، تحوَّلت إلى شرور وضرر. وأصبحت مسالك الهالكين.

-3-

يعترف جيروم بندي نائب مدير عام مساعد للعلوم الاجتماعية والإنسانية ومدير قسم الاستشراف والفلسفة والعلوم الإنسانية في الأونيسكو بأن القرن العشرين قد أعاد النظر في كثير من ثوابتنا اليقينية، فيما يتعلق بالتاريخ والمجتمع والإنسان. وإذا كانت هناك الآن أزمة في القيم، فإن هذه الأزمة لا تشمل فقط القيم الأخلاقية الموروثة (الخير، الشر، العدالة.. الخ)، وإنما تطال أيضاً القيم الموضوعة (العلم، التقدم، الحرية، الديمقراطية، المساواة، التضامن، وحقوق الإنسان.. الخ)، التي بنتها المجتمعات على مر القرون. ويخشى بندي من طغيان تطور التقنيات أن يؤدي إلى إنسانية لا نعرف ماهيتها، في الوقت الذي شهد القرن العشرون انحساراً كبيراً في التعلق بالقيم التقليدية، وعرف في الوقت نفسه الكثير من القيم الروحية، رغم تداعي الروابط الاجتماعية، وتنامي الروح الفردية بفضل طغيان الحداثة ذات الأسس الثلاثة: الحرية والعقلانية والفردية، أو الذاتية. وقد سهَّلت بداية القرن الحادي والعشرين هذه الموجة، وسوف يتواصل هذا التسهيل مستقبلاً في ظل ازدياد أثر ثورة المعلومات والاتصالات. وبذا نشهد وسنشهد مستقبلاً طغيان القيم الموضوعة (الأرضية) التي يتحدث عنها بندي، بفضل التقدم العلمي والتقني، والتسابق الاقتصادي والسياسي والعسكري، والتسابق على استثمار الموارد الطبيعية في أقطار العالم المختلفة. وما دمنا رضينا وارتضينا العولمة والتقدم التكنولوجي، ورحنا نتمرغ بترابهما، فعلينا أن نقبل بالقيم الأخلاقية التي جاءت بها العولمة والتقدم التكنولوجي. ورفضنا لهذه القيم سوف يضعنا في مأزق حرج كذلك المأزق الذي يتعرض له كل من يعيش في القرن الحادي والعشرين، ويمارس قيم القرن الثالث أو الرابع، وهو ما عبر عنه المفكر البرازيلي كانديدو منديس عضو مجلس جامعة الأمم المتحدة بقوله من أن "البحث عن قيم بديلة لقيم القرن الحادي والعشرين، يعني أن نعيش في حالة من التناقض" في الوقت الذي ما زلنا نتمرغ في منجزات القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين".

-4-

يؤكد المفكر السنغالي سليمان ديّان DIAGNE مستشار الرئيس السنغالي لشؤون التربية والثقافة أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً روحانياً رغم كل المظاهر المادية التي تعتريه، وكأننا نعيش خارج هذا القرن. وحجته في ذلك، أنه ما دامت الرومانسية لم تفارق كافة القرون منذ الخليقة حتى الآن، فكذلك هي الروحانية. وبدون الرومانسية والروحانية يصعب على الإنسان أن يعيش ويبني. وتلك هي ظاهرة في كل قرن ـ تقريباً ـ من القرون الماضية، وسيكون القرن الحادي والعشرون كذلك. بل إن الرومانسية والروحانية ضرورتان هامتان في هذا القرن أكثر من أي قرن مضى، لإيجاد التوازن بين مادية هذا القرن الشديدة والدسمة، وبين أنسنة هذا القرن رومانسياً وروحانياً، حيث لم يخلُ قرنٌ من القرون منهما. وما النقاش فيهما اليوم على هذا النحو من قبل كثير من مفكري هذا القرن، إلا من باب الترف الفكري وزيادة في طمأنينة الإنسان على أيامه المقبلة. وعلينا أن ندرك جيداً ـ وكما نرى الآن ـ أنه كلما أوغلت العولمة وأوغل التقدم التكنولوجي في تقدمهما، زاد بالتالي إيغال الرومانسية والروحانية لكي يتم التوازن الموضوعي في الحياة، ولا يتغلب جانب على الآخر، فتذهب ريح الإنسان، وينقرض كما انقرضت كثير من الكائنات في الماضي. وعلى الإنسان إذا أراد العيش في هذا القرن، وفي القرون التالية، أن يتكيف ـ ولو قليلاً ـ مع سنن الحياة. فالحياة أقوى من الإنسان، وهي تخضعه لمنطقها، ولا يخضعها لمنطقه. وهي التي تكيّفه كما تشاء، وليس لديه القدرة على تكييفها كما يشاء. ويبقى الإنسان بحاجة إلى الرومانسية والروحانية، حتى لا يصبح آلة من آلات هذا العصر. ولعل مرونة الإنسان وقدرته على التكيّف في مختلف العصور، هي التي تؤكد رومانسية وروحانية هذا القرن. فالروحانية تعبر عن نفسها من خلال نشيد شاعري، أي بلغة الأحاسيس، وباستعمال مجازات تحمل عبرة. فالروحاني ـ كما يقول سليمان ديّان ـ هو فن أخذ المسافة عن الذات. والروحاني مرتبط عميقاً بقيمة التسامح. وتبقى الرومانسية والروحانية كالماء والهواء للإنسان، إذا انقطعتا انقطع معهما نفس الإنسان، واختنق، ومات.