يشكك البعض في قدرة مصر على اجتياز أوضاعها الصعبة الراهنة، وعلى استكمال تحقيق أهداف ثورة 25 يناير على نحو شامل، والوصول إلى المكانة التي تستحقها وتليق بها. والواقع أن لديهم بعض الذرائع التي يستندون إليها. فرغم مرور أكثر من ستة أشهر على اندلاع الثورة، لم تتحرك الأمور كثيراً نحو تحقيق الأهداف الكبيرة التي قامت من أجلها، سواء على صعيد الديموقراطية أوالإصلاح أو التنمية. بل إن إشكالات كبيرة ظهرت على الطريق، مثل تراجع الحالة الأمنية، وضعف الأداء الاقتصادي، وعدم وضوح الرؤية فيما يتعلق بالسياسة الإقليمية والدولية، وظهور أنماط من المشاركة السياسية، اتخذ بعضها منحى طائفيا، أو بالغ في المزايدة على المطالب الثورية التي تحظي بالتوافق العام. كما بات واضحاً أن خريطة الطريق التي تم إعلانها منذ شهر مارس الماضي لإنجاز خطوات التحول الديموقراطي لم تكن خالية من بعض الارتباك، وعدد من المآخذ، وهو الأمر الذي أدى إلى انقسام القوى السياسية الرئيسة حيالها، وأحدث حالة من الاضطراب في المسار السياسي لمصر الثورة. لكن كل هذه الإشكالات أراها أمرا متوقعا كتوابع الزلزال بعد هزة تاريخية كبرى، ولكنها لا تكفي لإغلاق أبواب الأمل أمام الثورة المصرية، ولن يكون باستطاعتها إحباط الطموحات الكبيرة التي علقتها الجماهير المصرية والعربية عليها. فمصر قادرة على إعادة بناء نفسها كدولة مدنية حديثة قوية، تمارس دورها التاريخي في إلهام أمتها، والدفاع عن قضاياها، وصيانة مصالحها.

يحتاج المشككون إلى إدراك أن مصر تمر الآن بمرحلة انتقالية، وأن إدارتها هي سلطة موقتة، تؤدي دوراً صعباً في ميدان غريب عليها وفي وقت دقيق بالنسبة للبلاد، وإن كانت تتحلى بالنزاهة اللازمة، وتدرك أن الحركة نحو الديموقراطية والدولة المدنية الحقيقية تعتبر مسألة أساسية إذا كان للبلد أن يهدأ، وللثورة أن تنجح، ولمصر أن تستقر. كما أن للجميع أن يتيقنوا من قدرة الشعب المصري على تحقيق التوازن الاجتماعي، حتى في أحلك الظروف، وأن المخزون الحضاري الذي ينطوي عليه هذا الشعب ثري ومتجدد بما يكفي لتجاوز الانفلاتات والاضطرابات الراهنة. كما أن محاكمة المسؤولين المتهمين بقتل شهداء الثورة، وهدر المال العام، والإضرار بالمصلحة الوطنية، محاكمة طبيعية وعادلة وناجعة، ستعزز اليقين في قدرة ثورة 25 يناير على تحقيق أهدافها المتوافق عليها ضمن إطار القانون وتحت سيادته.

فمن أفضل السمات التي تتحلى بها الثورة المصرية وتتميز بها عن غيرها من الثورات التي قامت بها أمم أخرى؛ أن تلك الثورة هدمت النظام السابق، لكنها لم تهدم الدولة، وإن كان عليها تطهير أجهزتها من أهل الثقة عديمة الخبرة، والتي ساعدت على الفساد. ومن سمات تلك الثورة أيضاً أنها أسقطت سطوة الأمن القمعي، لكنها لم تسقط سلطة القانون، وأنها اختصمت مواطنين ومسؤولين سابقين، لكنها لم تنكل بهم، أوتسلبهم حقهم في الدفاع عن أنفسهم، وأنها قامت ضد تمييز طبقي وفرز اجتماعي مشين، لكنها لم تتحول أبدا إلى نزاع طبقي أو تناحر طائفي.

وكما كانت مصر مصدرا للفخار القومي، ومنارة في تاريخ الحضارة، ومثالا يحتذى في الحداثة، وأنموذجا للتجانس والسلم الاجتماعي، فإنها قادرة على تجاوز صعوبات المرحلة الانتقالية، عبر توافق فعالياتها السياسية وقواها الثورية على الخطوات الضرورية المقبلة.

سوف يتوافق المصريون على بناء الديموقراطية، بوصفها مبادئ إنسانية وآليات ذات فاعلية، تتشكل السلطة السياسية فيها وفق إرادة الناخبين كما عبروا عنها في صناديق الانتخابات. كما سوف يحققون الإصلاح، وهو أمر حيوي في ظل الخلل الذي حدث في حياة المجتمع المصري، وخاصة في السنوات العشر الأخيرة، وسوف يقدمون على عملية تنمية كبرى تعالج الفقر وتوابعه. وكل ذلك سيجري دون أي إجراءات من شأنها تقييد الحريات، أوإقصاء أي طرف من الأطراف، أوالتمييز بين المواطنين المتساوين في الحقوق والالتزامات دون أي تفرقة بسبب الجنس أو العرق أو الدين.

إن الحركة الحاصلة في بلدنا مصر الآن لا تخصها وحدها، لكنها تنعكس على إطارها العربي والإسلامي، والأفريقي والمتوسطي أيضا؛ فبقدر ما ستنجح مصر في إتمام تحولها الديموقراطي السلمي الناجح، بقدر ما ستتعزز فرص الإصلاح والديموقراطية والتعاون والاستقرار والسلام في مختلف الدوائر التي تنتمي إليها وتؤثر فيها. ستعرف مصر طريقها كما عودتنا عبر تاريخها العريق، وتهزم الصعاب والمحن، وتحافظ على وحدة شعبها وتماسكه، ليبقى وجهها الحضاري أصيلا ناصعا، وتستكمل تحقيق أهداف ثورة 25 يناير، لتعود دولة محورية وملهمة، تعمل على تحقيق العدالة والكفاية لأبنائها، وتعاون شقيقاتها في إدراك العدل والسلام لأبناء الأمة العربية.

وأخيراً، فإن شهر رمضان يمنحنا عبراً وعظات كثيرة، ويزودنا بطاقات عظيمة لإنجاز الأهداف السامية الكبرى، وكل الأمل أن يعود إلينا في العام المقبل ومصر على الطريق الصحيحة، والأمة العربية والإسلامية تنعم بالخير والأمن والسلام.