تنمية الإنسان والمكان هدف وضعه مليكنا المفدى عبدالله بن عبدالعزيز قيد التنفيذ في واقع الحياة السعودية فأخصب وأثمر وأصبح الجميع يلمسه ويعيشه، فحاز – أبومتعب – حب شعبه وتقدير العالم.
ونظرا لضخامة الهدف ونبل المشروع وأهميته الكبرى فقد جاءت خطوات التنفيذ بتكثيف وتسارع لدرجة أن الذاكرة البشرية يصعب عليها ترتيب توالي تلك الخطوات وتحديد أيها الأسبق في التطبيق الفعلي، سيما وقد أصبحت كل خطوات التطوير والتحديث تسير جنبا إلى جنب بصورة متناغمة ومنتظمة وكأنها ولدت في يوم واحد، وبأمر واحد، ولاغرو في ذلك فهي في عهد واحد وبروح واحدة وفكر واحد .
لقد نظر عبدالله بن عبدالعزيز في واقع عصره ودرس متطلباته وحتمياته وضروراته، وقبل ذلك كان يعرف واقع بلاده وشعبه ويعرف ما تحقق لوطنه وأهله من منجزات تنموية منذ عهد المؤسس ومرورا بعهود أسلافه الملوك الذين بذل كل منهم – رحمهم الله جميعا – كل ما يستطيع من جهد في سبيل التطوير والتنمية وفق ما أتيح له من إمكانات ووفق ما تطلبه عصره وزمنه، ثم رأى المليك بعد ذلك بثاقب بصيرته وعمق وعيه أن ما تحقق لوطنه وشعبه كبير لكن المطلوب في القرن الواحد والعشرين أكبر، فوضع خطته التنموية الكبرى التي يسعى من ورائها إلى وضع المملكة في قلب العصر شكلا ومضمونا ، فكان لابد من اعتماد خطة تأخذ في حسبانها ضرورة تواكب النمو بين المكان ، الذي لابد أن يرتدي حلة العصر بكل ما تعنيه من خدمات متقدمة ، وبين الإنسان الذي لابد أن يتمثل ثقافة ووعي العصر بالصورة التي تحقق له التوازن بين عقيدته وموروثه المتميز، وبين ما يجب أن يكون عليه كإنسان عصري لا يختلف ولا يتخلف عن نظيره في بلدان العالم المتقدم ، محققا بذلك خصوصيته وعصريته في ذات الوقت، وقادرا على أن يحفظ لتنمية المكان قدرها الحضاري ويضيف إليها ما يناسب واقعه وتطلعه المستقبلي.
ومن هنا انطلقت خطوات تنمية الإنسان والمكان بصورة متزامنة أو متوالية بتسارع زمني يصعب معه الفصل بين خطوة وأخرى، إذ توالت المشاريع التنموية الخدمية هنا وهناك حتى شملت جميع مناطق المملكة بصورة لم يسبق لها مثيل وتحولت المملكة إلى ورشة عمل لا تهدأ، وأصبحت لغة المليارات وآلاف المشاريع هي السائدة في وسائل الإعلام التي ترصد وتتابع وتنقد. وعندما أقول تنقد فإنني أشير إلى حقيقة أخرى تتمثل في اتساع هامش الحرية الذي رعاه ودعمه وشجعه المليك لإدراكه أن ضخامة المشروع التنموي تتطلب نقدا وتقييما وتقويما من المتابعين والمعايشين الذين يهمهم تتويج خطوات المليك بالأمانة في العمل والإتقان في التنفيذ، وهو أمر تبين إيجابية أثره فيما يلمسه الجميع من تقويم للمسيرة من خلال الحساب الذي ارتقى إلى درجات المحاكمات غير المسبوقة لمحاصرة الفساد الذي تكشف تحت مجهر هامش الحرية الذي أتاحه المليك وشجعه وحماه .
ولا يمكن الحديث عن توسيع هامش الحرية هذا بمعزل عن أهم روافده الكثيرة، والتي يأتي إطلاق الحوار الوطني في طليعتها، فهو مشروع أقل ما يقال عنه أنه أشاع لغة الحوار وجعل هذا المصطلح الحضاري لازمة إنسانية في حياة الشارع السعودي الذي قضى عقودا من الزمن في ظل الرأي الواحد، وهو رأي مهما قيل عن إيجابياته ـ إن كان له إيجابيات ـ فقد أثبتت لغة الحوار السائدة اليوم أن أحاديته تعد عيبا عقليا وعائقا حضاريا واضحا . ولأن المليك يدرك ضرورة تأهيل الإنسان لعصر الحوار والعلم والسؤال العميق فقد أعطى التعليم جل اهتمامه وبذله وجهده، فكان مشروع الابتعاث العظيم الذي شمل عشرات الآلاف من أبناء وبنات الوطن في تخصصات نوعية، وكان مشروع مضاعفة عدد الجامعات داخليا إلى نحو أربعة أضعاف ما كانت عليه، وكان مشروع تطويرالتعليم العام بتكاليف بلغت نحو تسعة مليارات ريال، وكان مليارات قريبة من ذلك للتأهيل والتدريب الفني والتقني للجنسين، ثم كانت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية لتكون تاجا لعصر العلم الذي يرعاه ويدعمه ملك الحكمة، هذا الملك الذي يظن الراصد وهو يتابع اهتمامه ودعمه لمشروع – ما – أن لا شيء غيره ، بيد أن الحقيقة تقول إن عيني الملك وبصيرته ترصدان مختلف المناحي الحياتية الكريمة للإنسان ، ولعل تاج تلك الحياة الكريمة وروحها هو العدل المتمثل في القضاء، ومن هنا كان المشروع الرائد للمليك في تطوير القضاء شكلا ومضمونا مدعومين بكفاءات وطنية واعية وخطة شاملة لتطوير الأنظمة العدلية وتحديدها وتخصيص المحاكم، ورصد أكثر من سبعة مليارات ريال لتحقيق هذا الهدف الذي يغذ السير نحو محطة التطبيق الكاملة.
إنني لست بصدد رصد وتعداد مشاريع التنمية واحدا واحدا ضمن مشروع خادم الحرمين الضخم لتنمية الإنسان والمكان، لكنني فقط أردت أن أشير إلى البنائية الحضارية التكاملية التي اعتمدها المليك لمشروعه في إقامة دولة عصرية محورها الإنسان بكل ما تتطلبه حياته من بناء شكلي ومضموني، ليصبح الوطن جديرا بموقع متصدر في حضارة القرن الواحد والعشرين. ولعلني أختم بما يعبر عن الفكر الحضاري والقيادي لخادم الحرمين والموقع الريادي الذي يريده لوطن الحرمين الشريفين في هذا العالم، فهو يقول – حفظه الله – في خطابه أمام منتدى حوار الحضارات الثالث في البرازيل في 29 مايو 2010م : "انطلاقا من مبادىء الدين الإسلامي الحنيف، دين الاعتدال والوسطية والتسامح، فقد انتهجنا في المملكة العربية السعودية سياسة نشر ثقافة الحوار والتواصل بين الثقافات والحضارات لتعزيز التعايش والتفاهم وإشاعة القيم الإنسانية كمدخل لإحلال الوئام محل الصدام، وهو ما يساعد على تخفيف حدة التوترات ونزع فتيل النزاعات وتحقيق الأمن والسلام".