ثلاث مفاجآت لم تكن في حساب العلماء، فبعد كشف كامل الخارطة الوراثية وجد العلماء أنفسهم في مواجهة جبل من المعلومات يحتاج إلى الترتيب في شبكة مخيفة من الكلمات المتقاطعة والألغاز المستعصية، يكفي أن نعرف أن تنظيم الضغط وحده يتشابك فيه ما لا يقل عن 200 جين.
ثانيا: أن كل فتح معرفي يقود إلى غموض أشد باتساع زاوية المعرفة.
والأمر الثالث أن هكسلي وفرويد راهنا على فك مغاليق النفس مع انطلاق علم (الفسيولوجيا)، فتبين أن آخر ما يتوقع الإنسان لمعرفة النفس هو علم الغرائز وانهارت المدرسة البيولوجية، كما تداعت بعدها مدرسة تحليل النفس السلوكي.
ولكن كيف تطورت هذه الرحلة المثيرة؟
كانت المفاجأة الأولى في ظاهرة (الطفرة) ففي عام 1901 م وعام 1926 م و1947 م و1961 م على التوالي أصيب الهولندي (هوجو دي فريس) بالذهول من ظاهرة تغير الصفات، فكان أول من أعطاها مصطلح (الطفرة MUTATION) ليثبت (هيرمان موللر) أنها تحدث بتعريض الخلايا للأشعة السينية.
ثم قدمت (باربرا مك كلينتوك) في دراستها على نبات الذرة أن المواد الوراثية ليست قطعاً جامدة في مكانها مثل حبات اللؤلؤ على جيد حسناء؛ بل تقفز برشاقة من حين لآخر مغيرة موضعها، ومعها قدر الكائن بنقله طوراً بعد طور.
يزيد في الخلق ما يشاء..
وكانت فكرة ثورية للغاية لا تقل عن فكرة مندل بقوانينه الثلاثة، وأبحاث مورجان على ذبابة الفواكه، لينال في النهاية كل من (جاك مونود) و(فرانسوا جاكوب) جائزة نوبل على كيفية عمل الجينات، عندما وصفوا (المفتاح البيولوجي) في نظام الجينات. وكانت كشفاً لا يقل عن اكتشاف اللولب المزدوج على يد الثنائي (واتسون ـ كريك).
كانت المشكلة أمام (هانت مورجان) في فهم ظاهرة انتقال الصفات إلى عالم الحشرات، فانتخب ذبابة ظريفة تتكاثر كل ثلاثة أسابيع (اليوم وصلت التقنية إلى اعتماد جراثيم تتكاثر كل عشرين دقيقة وفيروسات تتضاعف كل 12 ثانية)، وبالتحديق المتواصل في نواة الخلية وضع يده على بداية مفتاح انتقال الصفات من لون العيون وشكل الجناح، فأثبت عام 1910م أن الصفات لا تزيد عن مواد كيماوية موضعة على عيدان تأخذ الألوان بشراهة في نواة الخلية، أعطاها اسم الكروموسومات. ولكن السؤال الضخم مرة أخرى: كيف يمكن لصفات هائلة أن تنحصر في عدد بسيط من الكروموسومات؟
في عام 1935م قفز (ماكس ديلبروك) إلى تخمين أن صفات الوراثة تجلس في أماكن محددة على وجه الدقة من خيطان الكروموسومات الممتدة، فهي أشبه بجمل مفيدة ضائعة في خضم لغو من الكلام لا معنى له؟ ولم يدر في خلدهم أن هذه الخيطان التي يجب أن تكبر ثلاثة آلاف مرة حتى ينقشع عنها الغمام، هي احتشاد مرعب لمادة متسلسلة على شكل حروف تبلغ ثلاثة مليارات حرف في مكتبة تضم عشرة آلاف كتاب، كل كتاب بـ 300 صفحة، كل صفحة بألف رمز غامض بدون نقطة وإشارة استفهام، وفي صفحات محددة من هذه المكتبة كلمات واضحة صالحة للقراءة تعطي أوامر محددة للتشكيل.
هذه الأمكنة أعطيت كلمة (جين)، وهكذا فإن الجينات هي قطع محددة على امتداد شريط الحياة، وأعظم التحدي هو في تحديد هذا المكان، ثم إمكانية قصه أوتعويضه أو إصلاحه، وهذه كانت تحتاج بدورها إلى قفزة ثورية جديدة، فلا المقص موجود ولا المكان محدد ولا العدد معروف. كانت ثلاثة تحديات يأخذ بعضها برقاب بعض، كل واحدة تشكل معادلة رياضية صعبة الحل؟ كانت الرحلة طويلة والزاد قليلا. تحدث البروفسور (والتر جيلبرت) يوما من جامعة (هارفارد) عن مشروع (الجينوم البشري) فقال يصف مشروع القرن: سوف يقع في أيدينا ما لا يحصى من الفوائد. سوف يشق العلماء الطريق إلى الحجر المقدس وكنز البيولوجيا الغارق في بحر لجي. سوف نضع أيدينا على الكأس المقدسة فنتجرع منها دهاقاً في أدوية شافية بغير نفاد. ما نعرف عن الأمراض الوراثية يزيد عن 800 سوف نتخلص منها بالإضافة إلى الاستعداد لأمراض شتى من احتشاء القلب والسكري. سوف نقهر السرطان وأمراض الاستقلاب والإيدز ونزيد في عمر البشر قرونا. هذا الكلام يقابله ما كتب رائد جراحة الأوعية الدموية (الكسيس كاريل) قبل نصف قرن في كتابه (الإنسان ذلك المجهول MAN THE UNKNOWEN) يصف غرابة الإنسان (كل واحد منا مكون من موكب من الأشباح يسير في وسطها حقيقة مجهولة)، وأولئك الذين درسوا الإنسان (ضلوا طريقهم في قلب دغل سحري لا تكف أشجاره عن تغيير أماكنها وأحجامها).