إن التفكير في الهوامش والأشياء الصغيرة يشغل العقل فيما لا فائدة منه، والأسوأ عندما يكون الأمر سخيفاً جداً،حتى إنك تتساءل: لِمَ فكر فيه هذا الشخص ولم هو مشغول به لدرجة أن يشغلنا معه نحن أيضاً؟! فتكتشف أنه مريض بالوسوسة لا أكثر، والوسواس مرض نفسي يذكر علماء الدين أن المسؤول عنه الشيطان الخناس، ويبدو أنه وأتباعه لايجدون فرصة للراحة ولايعانون البطالة مطلقاً في مجتمعنا، ففي الماضي كنت ترى تأثيرهم في المجالس مع العائلة أو الأصدقاء، لكن الأمر الآن أصبح متطوراً، ليس من حيث الموضوع ولكن من حيث آلية إيصاله، فـ"الموسوس" أصبح لديه جوال وفيه برامج تمكنه من إرسال "برود كاست" لكل من في قائمته محملاً بفكرته التي انتهى إليها عقله الذي تسلط عليه الوسواس الخناس، ويبدو أن مواسم الطاعات كرمضان فرصة لا تعوض لهما –أعني الخناس و"الموسوس"- ففي أول يوم من رمضان وصلني "برود كاست" يحذر من قول "اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا"، وأنه حديث ضعيف، لأجد رداً عليه في "القروب" الخاص بصديقاتي من إحداهن وهي سيدة متعلمة تحوقل وتستغفر؛ لأنها طوال مامضى من عمرها الذي صامت فيه كانت تردد هذه العبارة عند الإفطار.

لا أعرف أين المشكلة في هذا القول؟ هل الله -عزوجل- سيؤثمنا لأننا قلناها مثلاً حتى يقوم كاتب الـ"برودكاست" بالتحذير والتأثيم؛ لتراجع كل كلمة تقولها وأنت تظنها كلمة طيبة ومباركة، وتعيش صراعاً نفسياً مع كل دعوة تدعو الله بها، وإذا كان ماسبق يدخل في الأمور الشخصية فإن الأسوأ أن تصبح أفكار الموسوس المنقولة عبر تكنولوجيا أوروبية مصدراً للحقد والتذكير بالحروب، كأن يأتيك "برود كاست" آخر يقول"عزيزتي، لاتخبزي المعجنات بشكل قوس؛ لأن هذه الطريقة كان يصنعها الأوروبيون نكاية بالهلال رمز الدولة العثمانية"،وفي الواقع إن تركيا تقدم كل ما لديها في سبيل الانضمام للاتحاد الأوروبي، ونسيت هي وجيرانها أحقاد الحروب التي اشتعلت يوماً بينهم، بينما نحن نفكر بحقد تجاه الخبازين الأوروبيين اللئيمين جداً الذين صنعوا "الكروسون" على شكل هلال؟!

هذه الوسوسة لا توجد في جوالك فقط، بل أنت تشاهدها أمامك، ففي المسجد الذي نصلي فيه التراويح ونحن نستعد للركعة الأولى ظهرت امرأة أمامنا وطلبت التراجع للصف الثاني زاعمةً أن الرجال الموجودين في الدور الأرضي يروننا لأن الزجاج العازل يظهرنا، حاولت أن أجد تعليلاً فيزيائياً يشرح لي ذلك فلم أجد، لتؤكد المرأة ماقالت بزعمها أن زوجها تأكد من ذلك، فسألت نفسي: كيف تجرأ ليرفع بصره نحونا؟! لم أجد رغبة في الجدال معها خاصة أن تحذيرها من إثم رؤية الرجال لنا يعلوعلى أي منطق!

كل هذا جعلني أتساءل: هل لأننا نحب ديننا ونخاف على كل ما يمس أجرنا وصلاتنا نصبح عرضة لهؤلاء المتعطشين لمن يلتفت إليهم ويستمع ويأخذ بما منّت عليهم به عقولهم الصغيرة وإلا أصبحنا في نظرهم لا نخشى الله؟!

إن هؤلاء يقودوننا نحو التشدد، وهو الطريق الأول نحو التطرف، والتاريخ يخبرنا أن الخوارج بدأت رحلتهم نحو الإرهاب بهذه الوسوسة.