فضيحة التنصت الأخيرة التي ضربت أكبر إمبراطورية إعلامية في العالم وأرغمت ريبورت ميردوخ على بيع صحيفة نيوز أوف ذا وورلد الأسبوعية الأكثر مبيعا في بريطانيا وأجبرته على الاعتذار علانية عما وصفه بالخطأ الجسيم وأطاحت باثنين من كبار المسؤولين العاملين معه بل ووضعته وابنه ومؤسستهما العملاقة تحت طائلة التحقيق الذي ربما لن ينتهي قريبا بل إن الأمور ستزداد سوءا أمامهما إذا صحت الأنباء التي كشفتها نيويورك تايمز الأميركية عن تورط صحيفتي "ذي صن" و"صنداي تايمز" التابعتين لذات المجموعة في اتباع الأساليب نفسها التي اتبعتها نيوز أوف ذا وورلد وقد تكشف الأيام القادمة ما هو أسوأ.

هذا كله يقودني للتساؤل حول تأثيرات فضيحة كهذه على نظرتنا للإعلام الغربي ومدى انهيار النموذج الإعلامي الحر وسقوط المصداقية والشفافية والمهنية التي ظلت عنوانا لحرية الكلمة وشرف المهنة في أحيان كثيرة.

فالإعلام الذي كان يمثل استقلالية وحرية مطلقة وينظر له بكثير من الاحتفاء والاهتمام ويعد المثال الدائم للوضوح والشفافية يبدو أنه سقط في وحل غياب الضمير وفقدان الرقيب ودفع ثمن حرية لا قيود لها!

بل إن الصورة التي ظلت ترتسم في أذهاننا عن الإعلام الغربي ويتغنى بها كثيرون في وطننا العربي اهتزت ونالها الكثير من التشوه بعد فضيحة التنصت هذه.

مما يعني أن مصداقية الإعلام الغربي باتت على المحك، ويصعب القول إن العالم سيقبل لاحقا بمنح ثقته لهذا الإعلام على غرار ما كان في المرحلة الماضية بل إن استعادة هذه الثقة أو المصداقية تبدو ضربا من المستحيل.

وليس صحيحا ما يتداوله كثيرون عن أن هذه الفضيحة كشفت المزيد من الشفافية والوضوح والسقف العالي في نهج الإعلام الغربي وعدم خضوعه لأي سلطة أو خشيته أحدا، وهو أمر لا يتحقق في إعلامنا العربي (ونتفق جميعا في هذه الأخيرة) لكن نزاهة الإعلام الغربي وشفافيته في كشف هذه التفاصيل كانت غائبة قبل أن تمتد فضيحة التنصت لأكثر من أربعة آلاف شخص وفقا لما تردده تقارير إعلامية!!

باختصار إنه انهيار حقيقي لصورة الإعلام المتبجح بشفافيته ومصداقيته واستقلاليته كما أنه تأكيد جديد على ضعف مؤسسات الأفراد وخضوعها للمصالح والتوجهات الذاتية والرغبات الشخصية التي تستغل سلطة الإعلام لتسيير المصالح الخاصة بل وربما تستخدم أساليب ملتوية وقذرة (عذرا على اللفظ) لبلوغ أهداف خاصة وإرغام جهة ما أو مسؤول ما لتحقيق تلك المصالح.

وفي حالات عديدة تتحول صحف أو مؤسسات الأفراد إلى تصفية حسابات خاصة، وهو جانب يصعب على هذه المؤسسات التخلص منه إلا في حالات نادرة ومحدودة، ومؤخرا كنت في ندوة شهدتها القاهرة وتحدث خلالها رئيس تحرير صحيفة الرياض الأستاذ تركي السديري عن نجاح نظام المؤسسات الصحفية في السعودية وهو نجاح وافقه عليه في ذات الندوة رئيس تحرير صحيفة اليوم الأستاذ محمد الوعيل وشخصيا أوافقهما الرأي في ظل هذا التناول الذي نهجته كثير من وسائل إعلامنا مؤخرا وقدرتها على ملامسة جوانب خدمية ضرورية في حياة المواطن والمجتمع وكشف القصور والوقوف على مكامن الخلل، وهو توجه منح الصحافة مكانتها عند المواطن البسيط بل وكشف قدرتها على الإسهام في القضاء على الفساد وإبراز جوانب الخلل ومنح المسؤول فرصة العلاج السريع، وهي أدوار يجب الاعتزاز بها في صحافتنا اليومية التي ظهر واضحا ممارستها لكثير من الشفافية رغم التخوف الذي يبديه البعض من سطوة الأفراد داخل هذه المؤسسات وتحويلها إلى سوط لقضاء مصالح ذاتية وتلبية احتياجات ونيل تسهيلات خاصة "وهو فساد داخل مؤسسات يفترض أنها تحارب الفساد!"

ليس مهما هنا الحديث عن إيجابيات وسلبيات هذه المؤسسات أو تلك لكن الأهم أننا أمام هذا كله معنيون بإعادة قراءة مشهدنا الإعلامي دون الاكتفاء بتشخيص ما يحدث للآخرين، فنحن مطالبون بخلع رداء الاستهلاك اليومي لقضايانا التي تحولنا معها إلى صدى للحدث أو ردة فعل لما يحدث والاكتفاء بالبقاء داخل هذه الدائرة!

إننا نتناول ونطرح ونناقش الكثير من القضايا اليومية وفجأة نتوقف لمجرد بروز مشكلة جديدة أو قضية موسمية وهكذا نطرح عشرات القضايا دون الوصول إلى حلول أو حتى مواجهة مسؤول لضمان عدم التكرار ووسط هذا كله يغيب الإعلام عن قيادة وعي المجتمع وصناعة توجهاته وهي مهمة تخلى عنها إعلامنا اليومي إلى حد كبير. رغم حاجتنا الماسة لإيجاد إعلام يقود الوعي ويؤسس للفكر ويهيئ لجيل يصنع مستقبله.

وهو برأيي دور مؤسسات عديدة على رأسها المؤسسات الإعلامية في مرحلتها القادمة والصحافة الورقية تحديدا هي المعنية في ظل توفر الحدث بشكل مباشر فضائيا أو إلكترونيا على مدار الساعة مما يحيلها إلى منبر للرأي ومنطلق لتوجه المجتمع وتأسيس الوعي الذي يقدمنا للآخر ويبرز واقنعا بوجهه الحقيقي وليس المشوه بل ويسهم في غرس وتعزيز قيم أخلاقية واجتماعية وإنسانية نحن الأحق بتقديمها للعالم.

إننا أمام فرصة صناعة نموذج إعلامي صادق وشفاف يتصدى لهذه المهمة لعله يكون البديل الأنسب أو النموذج الأقرب للإعلام المعاصر وهو الذي يمتلك كل المقومات لكنه بحاجة للمبادرة وتقديم نفسه بشجاعة بعيدا عن تقليد تجارب الآخرين إننا بحاجة لكل ذلك حتى في اختلافاتنا ونقاشاتنا وحواراتنا وسجالاتنا التي تشهدها صحافتنا اليومية يجب أن تكون نموذجا للمصداقية والشفافية والوضوح بعيدا عن مكاسبنا الذاتية أو رغباتنا الشخصية أو انتماءاتنا الفكرية.

إنها فرصة إعلامنا العربي لتكوين نموذج صادق ومهني يقفز على المصالح ويرفض الإملاءات ويحارب الفساد ويقترب أكثر من الناس البسطاء ويلامس جراحهم وآلامهم ومتاعبهم وفوق ذلك كله يصنع وعيا اجتماعيا ورأيا صادقا يرفض كل فساد على وجه هذه الأرض إنه دورنا الذي يجب أن نقوم به في ظل هذا السقوط المريع للنموذج الغربي. مؤسسات أخرى معنية بصناعة الوعي وتكوين توجهات المجتمع من أهمها التربية والتعليم والرئاسة العامة لرعاية الشباب ومركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني لكن الإعلام بوسائله المتعددة بات الأقرب للفرد والمجتمع.

أتمنى أن تستفيد بعض المؤسسات التربوية والشبابية والاجتماعية من آليات الحوار التي انتهجها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز في منطقة مكة المكرمة والتي صنعت نموذجا حقيقيا للشفافية والوضوح والإخلاص في القول والعمل بل إنها شكلت صورة حضارية في مخاطبة العقول وتعزيز الوعي مما أثمر حراكا اجتماعيا مبهرا تحول معه أبناء المنطقة إلى مشاركين ومساهمين فاعلين في كثير من الرؤى لمشاريع وبرامج محافظاتهم وقراهم، إنها صور تستحق الكثير من الوقفات الصادقة.