الجود كلمة قشيبة اللفظ جذابة المعنى، تهتز لها النفوس طرباً، وتفز لها القلوب فرحاً. مدحه على ألسنة الورى ذائع، كفاه فخراً وشرفاً محبة الرب له، فالله جواد يحب الجود. والجود صاحبه محروس العرض مصون الجناب، سائد على الأحباب والأضداد. هو جامعة الفضائل، وذروة محاسن الخصال، هو ثمرة شجرة طيبة أصلها ثابت في تربة المكارم وفرعها باسق في سماء المعالي:
حدث عَن الْجُود وَعَن فيضه فَالأمْر مَبْنِيّ على الْجُود
ولقد تسنم رسول الله أعلى مقامات الجود، وأسمى منازله، فكان عليه الصلاة والسلام أجود الناس، جمع الله له خصال الجود وصوره فحاز في كل باب من أبواب الجود أعلاه وفاز بأوفاه. وذلك السبق والتقدم كان نتاج ما جمع الله لرسوله الكريم من جميل الخصال وصالح الأخلاق كما شهد الله تعالى له بذلك فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم).
ومفهوم الجود يقترن في كثير من الأذهان بالجود بالمال، وهذا قصور في معناه ونزول بمكانته وسموه. فواهمٌ من ظن أن الجود مقتصر على عطاء المال بشتى صنوفه وأنواعه، بل الجود مراتب ودرجات، وهو صور وأشكال: جود بالنفس، وهو بذلها لله وذلك أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ، وجود بالعلم، وهو من أعلى مراتب الجود: وذلك بتعليم الجاهل وإرشاد السائل، وجود بالجاه، وهو بذل الوسع في قضاء حوائج الناس، وجود بحسن الخُلق في معاملة الخلق، وجود بالمال، وجود بنفع الخَلق بكل ألوانه. فالجود خصلة جامعها عطاء واسع وبذل سخي خالص من كل شائبة منٍّ أو أذى، مقرون بالابتهاج والفرح بتيسر العطاء كل ذلك دون ارتقاب جزاء من الناس. فلله ما أطيب الجود من خلق وما أكمله من وصف. فالجواد عطاؤه كثير وبذله واسع يفرح ويُسر بتيسر من يَقبل جوده ويُقبل على عطائه. كما قال الأول:
تراه إذا ما جئته متهللا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
والجود يُكتسب ويزكو، يُحصل ويربو بالتخلق كسائر الخصال، فالعلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، كذا الجود بالتجود. وإنه لمن أعظم ما يعين على اكتساب الجود ويبعث على التحلي به قطع النظر عن مجازاة الناس ومكافأتهم، وإخلاص النظر إلى رب الناس وابتغاء ما عنده، فهو المقصود في وجهه، المرغوب جزاؤه، المضمون وفاؤه (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولاشكورا). وعندما تمتلئ النفس بالإخلاص لله تعالى سترتقي وتسمو وتبذل وتعطي وتجود وتسخو ترقب فضل الله وتؤمل جزاء من يعطي على الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعيقها جحود جاحد ولا يصدها كنود كاند. وهذا هو السر في زيادة الجود بالصوم فإن الصوم غاية الإخلاص من العبادات فهو سر بين الإنسان وبين ربه، لا يرقب فيه من الناس جزاء ولا شكوراً؛ كما قال في الحديث الإلهي الذي رواه البخاري ومسلم: الصوم لي، وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وأكله وشرابه من أجلي، لذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان. فكان جوده يتضاعف في رمضان على غيره من الشهور. أضف إلى ذلك أن من أعظم دواعي التحلي بالجود وبواعث التخلق به كمال العلم بالله وتمام معرفته؛ الذي هو ثمرة قراءة القرآن وتدبره ومدارسته، فالقرآن معدن العلم بالله فكانت تلاوته وتدبر آياته ومدارستها تزيد في الجود الأجواد. فهذا أجود الناس رسول الله عليه الصلاة والسلام كان أجود ما يكون حين يلقاه جبريل يدارسه القرآن، فهو أجود بالخير من الريح المرسلة. نور على نور، نور الإخلاص الحاصل بالصيام انضم إليه نور العلم بالله وما له من الكمال وجميل العطاء، يهدي الله لنوره من يشاء. فليتنا إلى هذا الأمر فطنون، وبالجود في شهرنا متحلون، ولمقصود صيامنا وقيامنا وقراءتنا محققون. فإن لهذه العبادات المتنوعة آثاراً وثماراً في الأخلاق والأعمال، بقدر ما ندرك منها ونشهده في أخلاقنا وأعمالنا يكون الأجر الوفير والعطاء الجزيل. فكونوا أجود الناس بأنفسكم وبأموالكم وبجاهكم وبعلومكم وبنفعكم وبكل ما تقدرون عليه من العطاء، فمن جاد ساد.