في البدء كان القلم. قلمٌ أخضر. ينزلق برشاقة على ورقة بيضاء، يتدفق حبره الأسود كنهر الأمازون.. كتبَ كلمة. محا الكلمة. عاد وكتبها ثانيةً بشكل أجمل: "وطن"، لك من الحب وطن، ولك من الشعر وطن، ولك من الكون مكان.

وتماماً كما قال رسول حمزاتوف: "الذي يُقال يذهب، أما الذي يكتب فيبقى"، وأيضاً تماماً كما فعل، في الكتابة على ضوء قنديل اسمه: وطن. قد لا يكون هذا النوع من الكتابة ضرورياً لكنه ممتع. يُشعر الكاتب بانتماء ما إلى شيء ما في حياة ما.

إذن: الكتابة على ضوء وطن تبدد العتمة. الضوء يبدو كدائرة صغيرة قطرها ضئيل لكنها تعادل محيطاً، تعكس الجدران جزءاً منها ليبدو الأمر كما لو أنّ الكاتب في علبة أسمنتية، لا فرق لديه، طالما هو يفكر بصوت عالٍ، رغم أنه يعلم أن الأبواب مغلقة. قد لا يكون إغلاقها نهائياً، لكنه على أي حال هي مغلقة، وبذلك لا نستطيع أن نرى بقية الكون عبرَ ثقب الباب!

اللجوء للنوافذ، أو حتى الكوات الصغيرة، بات ضرورياً. فلكي يعيش الإنسان حالة ما أو يتأملها فإنه لا بد أن يراها عن كثب أو يعيشها، فالأطفال لا يكفيهم مشاهدة حبات الرمل، لا بد أن يلمسوها.. لكن شوقهم للاكتشاف يجعلهم يبتلعونها! فتكوينهم الطبيعي يحتوي مادتها في لحمهم ودمائهم، ولذلك يتمرد الأطفال، لكنهم يكبرون، وما كانوا في شوق إليه يصبح في متناول أيديهم لكنهم لا يكترثون بعد أن ولجوا في عالم الكبار.

في الماضي عشنا مئة عام من العزلة، كانت منطقتنا معزولة، وجسدت العزلة بمعنييها الحقيقي والمجازي. حائط العزلة بدأ يتهاوى اليوم، لكننا نجسدها قسراً اجتماعياً بالانكفاء والنكوص، برفض العالم باختلافاته وثقافاته وكائناته. هناك عزلة اختيارية ربما يشعر أحدنا بحاجته إليها أحياناً، سواء للعبادة أو التأمل أو حتى للجلوس وحيداً، يتأمل فيها الفرد ذاته محاولاً التواصل مع ما يحيط به خارجه.

وعلى أهمية الكتابة تأتي القراءة. جميل أن لدينا أصدقاء من ورق. نختارهم كما نريد، فهم طيبون للغاية، لا يزعجهم أن تصادقهم أبداً، ولا يتعمّدون إزعاجك بكلمات جارحة، ولا يتهددونك بالويل والثبور، ولا يتمتمون بكلمات غير مفهومة. بل يقفون بهدوء في مكانهم، على رفوف ليست مرتفعة، يسهل أن تتناول أحدهم وتشرع بقراءته منهمكاً بكل صفاء ذهن، وكأنه يقرأ لك ما في الواقع من ألم وانحسار، وما فيه من تساؤلات قلقة، قد لا يقدم لك إجابات جاهزة، وهذا هو المطلوب، لكنه يعطيك المفاتيح للتفكير، كمن يصحبك ليدلّ عقلك على الطريق.

قد يمارس الكاتب طقوسه الخاصة مستجدياً الفكرة، بالقهوة وبالتفكير بصوت مسموع، لكنه وهو في هذه الحالة يشعر بكونه في مكان آمن، ولا يخشى أن تهب الريح، فتبعثر أوراقه أو تطفئ قنديله الصغير. هنا يؤثر العزلة التي اختارها، لئلا يتأثر وجوده بالتماهي مع زيف الحياة اليومية، فالنوافذ الموصدة تعطي فرصة للنظر إلى ما يقع خارجها من خلف الحاجز الزجاجي، لكن ذلك لا يكفي. نحتاج أن نملأ رئتينا بهواء نقي يمنح الإنسان شعوراً بأنه طليق، لا قناعات كاذبة، ولا وجوه كالحة تدعي الجمال وهي قد تضمر الشرّ. الحرية إذن تكمن في عقولنا، لا أحد يستطيع نبشها ومصادرتها في لحظة ما، فالكتابة هي لحظة الحرية الوحيدة التي تتجسد كمادة، ليصبح الوجود بها جميلاً، إذ تعمل كمضخات تفريغية لشحنات الطاقة الكامنة في العقل، يستعيد الكاتب بها ألقه ونشاطه فيعود منها وإليها منتعشاً.

أما القنديل الذي اختار أن يكتب تحت ضوئه فهو الذي لا يقبل أن يراه منطفئاً، يريده دائم التوهج، متجدد العطاء، مركزاً للمحبة والنماء والإنماء، وساحة للحرية، ومقراً للعدل، وفضاء للمساواة، فحقيقة الوطن تتمثل في معنى الوجود الإنساني الحقيقي في المكان والزمان، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فلا تلفظ الأوطان أبناءها إلا مع تنامي نفي الإنسان للإنسان. فالمكبوتات الإنسانية إذا لم تجد طريقة للاحتواء، تتفجر لدى البشر فيلجؤون إلى الصراع والاقتتال، سواء في دوائر صغيرة أو كبيرة، أفراداً وجماعات؛ لأن حالاتهم الكامنة تتحول إلى قوى مدمّرة إذا لم تتفجر طاقتها. وللوطن طاقته.. أبناؤه.. ثرواته.. التي لا تحتمل الهدر والتلاشي! فلا يحتَمل الوطن أن يخذل أبناءه، ولا يحتمِل أن يخذلوه، فضوء ذلك القنديل يجب أن يستمر ولو ضئيلاً، إلى أن يعود وهاجاً كأنما ينتصر للكتابة/ للحرية.

ولكن عندما لا يصرخ القنديل بكل الذين يهمون بمغادرته: عودوا.. لا ترحلوا! فلن يكون الحب والحرية وجهين لعملة واحدة أبداً، ولا المطارات قبلة للوداع، بل وجهة للمغادرة إلى أماكن فسيحة تعج بالأمل، وتصنع تذكرة سفر نحو المستقبل، حيث تتوقف اليد عن الكتابة، ويتحرك اللسان ملتوياً، وتأخذ الحروف شكلاً آخر.