تظهر عند الكثير من ممارسي العمل الانتخابي باعتباره العمل الديموقراطي الأمثل، إشكالية في فهم ما يمكن أن يكون عملاً انتخابيا يحسمه التصويت من العمل الحقوقي، وهل يمكن التصويت على كل شيء؟ وهل سلطة الأكثرية يمكن لها أن تغير الكثير من الأمور والقضايا التي تعتبر فردية؟

هناك العديد من القضايا التي اتضح خلل مفهوم سلطة الانتخاب لدى الكثير من الفائزين بأكثرية الأصوات وكانت لدى بعض من فاز في مجلس الأندية الأدبية حيث تمت محاولة تغيير الإطار العام إلى الأندية وجرها إلى قضايا غير العمل الأدبي أو الثقافي بشكل أعم الذي له صلة بمفهوم الأدب العام. هناك من ظن أن سلطة التصويت التي خولته إلى منصب رئيس ناد أو عضو في مجلس أو حتى عضو في المجالس البلدية إلى الظن أن بمقدوره تغيير كل ما يمكن أن يغير حتى لو خالف الإطار العام الذي انتخب من أجله فقط لأن الظن العام في فهم التصويت أنه يمكن أن يكون في كل شيء.

يظهر هذا الخلل أيضا حينما يتم إلغاء حقوق الأفراد لكونهم لا يمثلون الأغلبية من الأصوات أو من المجتمع. حقوق بعض المذاهب المخالفة للمذهب العام في أي بلد، التي تعتبر أقلية خاصة في الأوضاع العربية، تضيع في سلطة المذهب العام أو سلطة الأغلبية، وهذا خلل ديموقراطي كبير لا بد من فك ارتباطه. اختيارية الأفراد من أهم القضايا التي تؤسس لها الديموقراطية؛ أي لا يضيع صوت الفرد بسبب أغلبية الأصوات، وهذا ينطبق على كل الثقافات الصغيرة والكبيرة بحيث لا يمكن لثقافة أن تفرض على ثقافة أخرى قيمها ما لم تكن مقنعة إقناعا تاماً من غير أن يكون للسلطة العامة فرض ذلك على الأقليات. صحيح أن ثقافة الأقلية تسير في جانب من جوانبها في تأثير الثقافة العامة؛ إلا أن هذا التأثير هو تأثير طبيعي أي من غير أن يكون مفروضاً بسبب أكثرية أصوات الثقافة العامة. يذكر الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس في كتابه: "مستقبل الطبيعة الإنسانية: نحو نسالة ليبرالية" ص 9 أنه "لا يمكن لمشاريع الحياة الفردية أن تتشكل بمعزل عن السياقات المبتادلة بين الذوات. في كل الأحوال لا يمكن لثقافة ما، وفي وسط مجتمع مركب، أن تفرض نفسها تجاه ثقافة أخرى إلا حين تتمكن من إقناع الأجيال الصاعدة التي يمكنها أن تقول "لا" دائما، وحين تكون دلالاتها بالانفتاح على العالم وقدرتها على تقديم توجيهات من أجل العمل قادرة على تقديم المنافع. ففي ما خصّ المادة الثقافية لا يمكن أن يوجد ما يعرف بحفظ الأنواع، ولكن، وفي دولة القانون الديموقراطي، لايمكن للأكثرية أن تفرض على الأقليات شكل حياتها الثقافية باعتبارها ثقافة معيارية ـ هذا إذا كان ابتعاداً عن الثقافة المشتركة للبلد...". انتهى كلام هابرماس، وهو هنا يضعنا أمام اختيارية ثقافية، المعيار الثقافي فيها هو المنفعة للمواطنين دون أن يكون للجوهر الثقافي دور في فاعلية الثقافة من عدم ذلك.

الثقافة العامة فاعل من ضمن فواعل أخرى لكنها ليست الفاعل الأوحد والاحتكام لها يحتاج إلى نوع من العمل المقنع في فاعليتها دون أن يكون سبب قوتها مدى قبولها الثقافي لدى أغلبية الناس دون فاعلية حقيقية على أرض الواقع. هناك من يتمسك بقيم ماضوية لا تحقق نفعاً للناس لكن التمسك بها من قبل هؤلاء له طابع ثقافي دون أن يكون طابعاً نفعياً حتى وإن كان السياق العام للمجتمع هو السياق التقليدي الذي يقبل هذه الرؤية الماضوية. هنا تضغط الأغلبية التي لا قيمة لها غير القيم الثقافية العامة، والتي لم تؤسس لمنفعة واقعية إلا كونها وجدانية ثقافية للمجتمع على القيم الحياتية الأخرى العملية. هنا تصبح قيم الأغلبية قيما مفروضة دون إقناع حقيقي للأجيال الصاعدة. العمل الديموقراطي الحقيقي يمنح الجميع حق الوجود الفعلي على أرض الواقع دون أن يشعر أحد بالضغط المفروض عليه بسبب قيم غير مقنعة فرضها أناس على آخرين بحكم الهيمنة الثقافية. هنا تصبح الديموقراطية صورية أكثر منها عملا حقيقياً.

إن الديموقراطية لا يمكن لها أن تفتح الباب على مصراعيه لتغيير كل ما يريده المجتمع فقط لأنه لا يحبذ الأمر ذاك ويفرض أمراً آخر. هناك حدود لكل شيء فهل يمكن تغيير كل شيء من خلال الديموقراطية؟ بالطبع لا . الديموقراطية تتمحور حول مفهوم العدالة الاجتماعية من خلال إشراك الجميع في الحقوق الطبيعية، وواضح من هذا الكلام أن الديموقراطية تفترض فهم جانبين مهمين: الأول؛ العدالة الاجتماعية، وهي العدالة التي لا يمكن أن تخرج عن الجانب الثاني؛ الحقوق الطبيعية للإنسانية، وهما أمران متجاوران كتجاور الظل للأشياء. لا يمكن أن تكون هناك عدالة اجتماعية ما لم يكن هناك إحقاق للحقوق الفردية للإنسان. الحرية مثلا من أهم الحقوق الطبيعية للناس، ولذلك لا يمكن أن تكون هناك عدالة ما لم تكن هناك حرية للأفراد. لنفترض مثلا أن مجتمعا أراد بالتصويت الانتخابي قمع رجل ما عن إحقاق حقوقه الفردية كحرية التعبير مثلا فهل يمكن تحقيق هذا العمل القمعي من خلال صوت الأغلبية؟ القيم الديموقراطية الحقيقية ترفض مثل هذا التصويت لأنه ضد الحق الطبيعي للأفراد وضد العدالة الاجتماعية. لنأخذ مثالا آخراً وهو حق المرأة في قيادة السيارة، وهذا مثال ذكره الصديق عبدالله المطيري في مقال له قريب من فكرة هذا المقال، فهل يمكن للمجتمع أن يصوت ضد حق المرأة في القيادة فقط لأن الديموقراطية تفرض قبول تصويت الأغلبية؟ هذا من الناحية الديموقراطية مرفوض تماما لأنه ضد حق المرأة وحريتها وهو حق طبيعي، ولا ديموقراطية في هضم حقوق الآخرين كما أنه ضد العدالة الاجتماعية التي تفترض المساواة بين الرجل والمرأة.

إذن.. تبقى العدالة الاجتماعية من خلال حق الأفراد في اختيار المصير أهم القضايا التي تتأسس عليه الديموقراطية. أما من يريد أن يشكل المجتمع من خلال صوت الأغلبية ضد القيم الإنسانية الطبيعية فهو خارج العمل الديموقراطي، وهو فهم مغلوط تماما كما هو الفهم العام لدى أكثرية الناس في معنى الانتخاب.