لقد جاء الإسلام ديناً شاملاً لكل تفاصيل الحياة البشرية، ومنظماً لكل أحوالها وعلاقاتها بما في ذلك الجوانب المعرفية والثقافية؛ فأول آيات القرآن الكريم المنزلة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خير الأنبياء والمرسلين كانت تحمل الأمر بالقراءة، وكان نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام في فعله وقوله يحث على طلب العلم والمعرفة، وهنا نتذكر أنه كان عليه الصلاة والسلام يطلق الأسير من الكفار مقابل تعليمه القراءة والكتابة لعشرة من المسلمين .

اهتمام الإسلام بالعلم والثقافة - وهو منهج المسلمين ودستورهم - جعل المسلمين يهتمون بالعلوم والمعارف في شتى المجالات؛ ولذا رأينا العلماء المسلمين يبدعون في العلوم المختلفة، ويكون لهم قصب السبق على العالم أجمع، حيث أسسوا حضارة ومنارة علمية أفادت منها البشرية شرقاً وغرباً، وكانت الأساس والنبع الأصيل للثورات العلمية والثقافية التي شهدها العَالم .

وبما أن المدينة المنورة هي عاصمة الإسلام الأولى التي انطلقت منها أسراب النور تقدم الهداية والخير والمعرفة وتنشرها في شتى البقاع؛ فقد كانت هي عاصمة الثقافة والنور الأولى!

ويأتي اختيارها لتكون عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 1434هـ الموافق 2013م عودة بالثقافة والعلم إلى منبعهما الأصيل، حيث تشكل هذه المناسبة لفتاً لانتباه الجيل إلى هذه المدينة المقدسة التي اختارها الله تعالى لتكون مهاجر نبيه صلى الله عليه وسلم ومأرز الإيمان، ومثوى الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.

فالمدينة قد تربعت على مكانة عليا في العلم والثقافة يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إلى الناس في مسجده الشريف معلّماً ومربّياً وموجهاً، فكان يدرّس أصحابه ويعلمهم، كما خصص لنساء المسلمين وقتاً يأتيهنّ فيه فيعلمهن ويوجههن، ولم ينس من تعليمه وتوجيهه صغار الصحابة وأبناءهم وبناتهم، فكان لهم نصيب من علمه.

ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل من هذه المدينة رسله فاتحين ومعلمين ومبشرين بالإسلام ومنذرين، حتى نشر الإسلام في الجزيرة قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى.

والمدينة لم تتوقف عن تحمل أعباء هذا الدور، فظلت منذ عهد الصحابة مقصد طلاب العلم من شتى أرجاء المعمورة، وها نحن اليوم نرى المدينة المنورة المكان الأول لطلاب العلم الشرعي من أنحاء الدنيا، وهذا هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال منارة شامخة تحتضن حلق العلم ودروس الخير.

كما أن لمدارس المدينة المنورة ومعاهدها سمعة مضيئة يعود بعضها إلى قرون مضت، وما ذاك إلا لما فضلها الله به من العلم والإيمان، فهي دار الإيمان ودار النبوة.

وهاهي الجامعة الإسلامية التي أسستها حكومة المملكة العربية السعودية منذ عام 1381هـ لتكون نبعاً معرفياً صافياً ينهل منه أبناء المسلمين في شتى أنحاء المعمورة، حيث تخرج فيها منذ إنشائها ومن مختلف المراحل الدراسية أكثر من أربعين ألف طالب يمثلون أكثر من (200) جنسية وإقليم، عادوا لأوطانهم علماء وقضاة ومعلمين يحملون أمانة العلم والثقافة الإسلامية؛ مؤكدين أن المملكة العربية السعودية، والمدينة المنورة تحديداً هي نبع الثقافة الإسلامية الأصيلة!

ولعل برامج الجامعة الإسلامية الثقافية المتنوعة التي بدأت منذ أكثر من أربع سنوات وشملت الكثير من الفعاليات بين مؤتمرات دولية ومحاضرات وندوات ودورات تدريبية، شارك فيها نخبة من كبار العلماء والمفكرين والمثقفين من داخل المملكة وخارجها، وحظيت بكثافة الحضور والتغطية الإعلامية تأكيداً على الريادة الثقافية لهذه المدينة الطاهرة.

إن اختيار طيبة الطيبة لتكون عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 1434هـ الموافق 2013؛ تأكيد على أنها بإذن الله تعالى ستبقى عاصمة للعلم والثقافة محروسة بعناية الله وحفظه، في ظل قيادة حكيمة من ولاة أمر هذه البلاد المباركة، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبدالعزيز حفظه الله وسمو ولي عهده وسمو النائب الثاني - حفظهم الله جميعاً- . ولا شك أن جهود أمير المدينة المثقف صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن ماجد بن عبدالعزيز التي تُذكر فتُشكر، فهو من الرجال المخلصين الذين يبذلون الغالي والنفيس في سبيل خدمة هذه المدينة المقدّسة، وجهوده في دعم الحركة العلمية والثقافية في المدينة المنورة لا تخفى على أحد، وما مجلسه الأسبوعي إلا دليلٌ على حبّه للعلم وأهله، وكذلك حضوره ودعمه غير المحدود لمختلف المناشط الثقافية التي تحتضنها المدينة النبوية.

والتقدير والشكر لمعالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة على دعمه ومتابعته لبرامج هذه المناسبة!

وهذه دعوة صادقة لجميع أبناء طيبة الطيبة ومثقفيها لكي يستغلوا هذه المناسبة في تعريف العالم أجمع بتأريخ المدينة ودورها الثقافي على مختلف العصور، وإسهاماتها الثقافية في بناء الحضارة الإسلامية الأصيلة التي تنمي المعارف وقبل ذلك تهذب السلوك.