يبدأ الاغتراب الشعوري لدى الإنسان حين تكون المسافة الفاصلة بين فكره وبين واقعه شاسعة جداً، وحين لا يحقق المجتمع الطموح الذي يريده، فالإنسان في طبيعته يتمحور حول مصالحه، ودائماً يعرض نفسه أنه صاحب الحق والحقيقة، ويرفض كل تبرير يقدم له حين يتعلق الأمر بشأن من شؤونه الحياتية، فتكون مستويات الفكر والوعي واحترامها عنده أهم من جوانبه المادية التي هي كذلك محط اهتمام وعناية.

منذ خروج فكرة "العولمة" بعد سقوط المنظومة الشرقية الشيوعية، وتفرد القطب الأوحد في العالم، وتضخم أدوات العولمة التقنية والفكرية، وكسر الحواجز الثقافية بين الشعوب، والناس تقفز قفزات إلى الأمام لا تستطيع أدوات الوعي ومنتجات العالم العربي أن تتساوق معها أو تتلاءم مع هذه المنتجات التي تغزوها في الصباح والمساء، فالاتصال، والإنترنت، وتقنية المعلومات، وسهولة الحصول على الخبر والمعلومة، وتعزيز القيم الغربية عبر ترسانة ضخمة من الوسائل المتنوعة والتي تخترق شعور الناس وضمائرهم وأفكارهم بلا إرادة، كلها تعمل على خلق حالة جديدة، وجيل جديد له قيمه الخاصة، ومفاهيمه الخاصة، والتي تتجاوز طبيعة البناء الثقافي للمجتمع، فيعيش الشاب حالة انفصال بين القيم الجديدة، وبين طبيعة الواقع السياسية والاجتماعية والثقافية والقيمية، وهذه الفجوة تتسع يوماً بعد يوم، فتتقازم في ذهن الجيل القيم الثاوية في المجتمع مع هذه القيم الافتراضية والتي يرى الناس تضحي بكل شيء في سبيل الحصول عليها واللحاق بركب أهلها وحضارتهم.

إن التبعية لهذه القيم لا تعني بالضرورة صلاحيتها أو تمامها من النقص والعيب، ولكن المتحكم في الواقع ليس هو الفرز المعرفي والفكري والعلمي، بل هو قدرة المالك للمال والإعلام على تسويق بضاعته المادية والمعنوية، الأمر الذي أدركه الغرب وضخوا فيه الثروات الطائلة ليتوصلوا إلى هذه التعميمية للثقافة الغربية في العالم كله، من خلال معامل ومختبرات تدرس الإنسان، تاريخه وحركته في الواقع، وسنن اجتماعه، وطبائع النفوس، وكيفية التأثير عليه شعوريا، وتوجيه فكره ووعيه الوجهة التي يريدون.

إن الفجوة تتسع يوماً بعد يوم مع مقررات الحضارة وواقع العالم الإسلامي، فالجيل الجديد جيل متطلع، يحتاج إلى أن يخلق له جوا جديدا يمارس فيه قيمه النظرية الجديدة حتى لا يشعر بالاغتراب في مجتمعه، فما بالك إذا كان هناك الآلاف من الذين لم يكتفوا بالاستلاب الحضاري عن طريق وسائل التقنية الحديثة من البعد الافتراضي، بل أرسلناهم لينفتحوا على تلك المجتمعات، ويعيشوا القيم التي يحلمون بها واقعا، يطلعون على نظام معرفي واجتماعي واقتصادي وتعليمي مختلف، يرون في تلك الدول أشياء لا يحلمون برؤيتها في واقعهم الذي يعيشون فيه، ما حال هؤلاء إذا رجعوا إلى البلاد ونحن لم نوفر لهم الحد الأدنى من البيئة الحاضنة والمقنعة، والتي تتناسب مع هذا الوعي الجديد، الوعي المرعب الذي تجاوز نمطية التفكير التقليدي لنرى شبابا صغارا بعقول شيوخ ناضجين، إن هؤلاء لا يمكن أن نتعامل معهم بعقلية التسويف، أو الإهمال، أو التعمية، بل لا بد من تسريع وتيرة التقدم ليتوافق مع هذا الجيل الجديد.

إن أمامنا سبلا كثيرة لنعمل على هذا الأمر الضروري والذي لابد أن يكون من أولى الأولويات، من خلال فسح مجالات الحراك الشبابي في الجامعات والكليات والمعاهد ليمارسوا شيئا من تلك القيم ويتدربوا عليها، أن نجعل منهم أناساً لهم الحق أن يقرروا اختياراتهم في دوائرهم الضيقة على أقل تقدير، ونملأ الفراغ الشعوري الذي يشعرون به حتماً، وأن نبذل الميزانيات الكافية للعناية بالشباب ومناشطهم باحترافية ورقي، وبناء مراكز ليمارسوا فيها أعمالهم بحرية، بعيدا عن تعقيدات البيروقراطية، أو توجسات المجتمع المحيط.

كما أن هناك ضرورة ملحة إلى إعطاء جيل الشباب الفرصة الكافية للمناصب القيادية في القطاعات الحكومية والمؤسسات التعليمية، فنحن مجتمع يشكل الشباب أغلبية فيه، مما يعني ضرورة التقارب العمري بين جيل الشباب وبين مديريه ومرؤوسيه ليتم خلق حالة التجاذب والانسجام، فمع احترامنا الشديد للكبار إلا أن المبادئ الحاكمة على الواقع هي مبادئ جديدة، مبادئ شابة تحتاج لعقلية الشباب الذي يستطيع مواكبة التغير بسرعة، ولا يجثم على مبادئ عفى عليها الدهر، في الإدارة والتعليم وغيرها من مجالات بناء التنمية للمجتمع في كل جوانبها.

إن غرس الثقة بجيل الشباب، ومراعاة طبيعة الخطاب الذي يتوافق مع عقليتهم الجديدة هما اللذان يحققان لهذا الجيل - الذي قدر له أن يعيش في هذه الظروف الاستثنائية في مسيرة الحياة البشرية – الوطنية الحقة، والشعور بالانتماء الحقيقي للوطن، فإن هذه المشاعر ليست إبرا تحقن في الناس حتى يشعروا بها، بل هي مناخ جاذب توفر فيه حاجات الإنسان وضرورياته وكمالياته والحرص على تحقيق تطلعاته وآماله العريضة.

إنه لا توجد فرصة لأي دولة أعظم من توافر الموارد المالية والتي من خلالها تستطيع ان تبني الإنسان أولا، والشباب بصفة خاصة، فإنهم عماد الأمم وقوامها، والمحرك الطبيعي لحركة البناء الحضاري لأي أمة، وعليه فلابد أن نجعل من عقلية وأفكار الشباب مقياس الرصد والرسم لكافة السياسات والاستراتيجيات الوطنية، وإلا سوف نفاجأ، إن لم نفعل هذا، بأن هؤلاء الشباب سيكونون مصدر قلق واضطراب للمجتمع، فكل حركة جماهيرية في التاريخ تسعى إلى التغيير من خلال استقطاب الشباب، فيتم التركيز على الشباب المحبطين والعاطلين والمهمشين، الذين يشعرون بنقمة على مجتمع لم ينصفهم في أخص خصائصهم وتطلعاتهم، ومراعاة ذلك هو قطع للطريق على كل المغرضين الذين يكيدون ويمكرون مكر الليل والنهار.

إن شبابنا كوم من الطاقات والمواهب والقدرات، وهذه الطاقات إن لم تجد لها التوجيه الذي يستثمرها في البناء الحضاري، فإنها لا شك سوف ترتد لتفرغ في مجالات مضرة، وما هذه الحملات المنظمة التي تكشفها الدوائر المعنية بمكافحة المخدرات والتي تبين حجم المخطط لإغراق الشباب فيها إلا دليل على العمل من خلال ضرب البنية التحتية والمادة الخام لنهضتنا، فهؤلاء الشباب إما أنهم لنا او للمخدرات أو للإرهاب.