الإنسان يمتلئ معرفيا بالكتاب، ولكن أبا حامد الغزالي في كتابه الإحياء يقول إن الوصول إلى الحقائق له نبع أصفى من الحواس.. هو العودة إلى الباطن، ويشبه لهذا بنهر مملوء بالأوساخ يتدفق من الخارج، وحفر بئر من عين صافية من الأعماق، وهذا يفتح الحديث عن ذلك الوضع الذي يدخل فيه المرء منعزلا بدون كتاب؛ فماذا يفعل والوقت البطيء يمر؟
أتذكر لحظات اعتقالي في كراكون الشيخ حسن حين ألقت المخابرات القبض علي بسبب تقرير سري فبقيت عندهم الخريف بأكمله ورأيت بعيني فظائع يجب نقلها للرأي العام.
إنها لحظات صعبة خطيرة في حياة الإنسان وهي لون التحدي الأعظم، وفيه يقول باسكال في كتابه الخواطر متسائلاً لماذا تعتبر الوحدة أخطر ما يواجهه الإنسان؟ ويعلِّل ذلك أن الإنسان يهرب من نفسه معظم الوقت فيلعب ويتشاغل؛ فإذا اضطر لمواجهة نفسه كان العذاب الأليم، ولعل حزننا الكبير حين نخسر العزيز هو لون غير مباشر للشعور بالفراغ.
أما ديورانت فيذهب إلى أن الوحدة هي ميزة الحكَّام والحكماء حين ينطلقون للبحث عن الحلول في مواجهة الأزمات..
ويذهب الصوفيون إلى أن الوصول إلى الحكمة لابد له من العزلة فيذهبون ويعتزلون العالم لفترة من الزمان، ونحن نعلم عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أنه حُبِّب إليه الخلاء قبل أن يأتيه الوحي. وربما كانت العزلة طريق معظم الأنبياء والمصلحين في فترة ما قبل صعود نجمهم.
وفي كتاب الأسير الذي قرأته يقول الضابط البريطاني إن ما أبقاه على قيد الحياة كان حديقة الذاكرة، فبين أربعة جدران في أربع وعشرين ساعة وحيدا فريدا معرضا للتنكيل في أي لحظة ما الذي يبقيك على قيد الحياة؟
إنها حديقة الذاكرة من بقايا متناثرة من أفلام متحركة وصور باهتة من هنا وهناك. لقد كتب (جون بفايفر) في كتابه عن (الدماغ البشري) أن لا شيء يزول من الذاكرة، ولكن ما يمكن استحضاره هو الذي ارتبط بانفعال وجداني أكثر من غيره. أقول هذا الكلام بسبب بحثي عن قوانين البناء المعرفي أن أحد أنشطة الدماغ هي الذاكرة والتصور والخيال والتعقل، فيمكن لنا أن نسبح في أمور خيالية ونتصور جبلا من ذهب وأنهارا من عسل مصفى وحورا مقصورات في الخيام لم يطمثهن إنس من قبل ولا جان، ولكن التعقل هو الانطلاق في اللانهائية كما في تصور كون يتمدد إلى اللانهاية، فهذه لا يمكن تصورها، أو أعداد متراكبة لا تنتهي؛ فهذه أيضا لا يمكن تصورها، ولكن يمكن تعقلها، وهذا هو فن الرياضيات.
والأحلام أمرها عجيب، حيث يعمد الدماغ إلى خلط المعقول باللامعقول ويستحدث صورا متراكبة من أشياء جديدة، فيدخل الإنسان عالما مخترعا عجيبا من أشياء قد يحدث بعضها من عالم الغيب أو أنها حدثت فيطلع عليها الإنسان ببعد المسافة وحواجز الجغرافيا، وهو أمر أعرفه تماما؛ فهي تجارب شخصية لي عشتها وعرفتها، وليس عندي من تفسير لها.
وفي الحديث أن أول الوحي كان الرؤيا الصادقة ودامت نصف عام، وفي الحديث أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، ذلك أن تلك المنامات الصادقات التي أهديت لنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم استمرت ستة أشهر وكانت فترة رائعة من تجلي الروح.
وما نخلص إليه أن الوحدة صعبة ولكن حديقة الذاكرة فيها إسعاف كبير، ولو تسنى للإنسان أن يكتب لكان رائعا؛ فينقل من الذاكرة إلى الورق، وهناك من يُكتب عليه السجن فلا يجد حتى الورق، وهو ما نقل عن سجن ابن تيمية الأخير في سجن القلعة في دمشق حين حرم من القلم والقرطاس فأخذ يكتب بالفحم على الجدران وهو ما فعلته أنا في سجني في كراكون الشيخ حسن (معتقل رهيب) على يد البعثيين فأدخلت قلم رصاص سرا وبدأت في كتابة سورة البقرة سرا على أحد الجدران فامتلأ بها الجدار، وأتمنى أن أرجع إلى سورية فأرى بنفسي ذلك الجدار وهل من أثري عليه؟
في نهاية سجني الذي استمر شهرين كتبت في أسفل الجدار هذه العبارة: كل من دخل السجن خرج وليس كل من خرج سلم.. اللهم أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، وخرجت يومها ولم تتبين لي فكرة اللاعنف فكان علي دخول المعتقلات من جديد حتى تتبلور؛ فزاد يقيني، واكتمل تعلق قلبي برب العزة والجلال، وأن نظام البعث سوف يدمر، وهو ما نراه بعد مرور أربعين عاما مع مظاهرات تعم أربعين مدينة.
كان صديقي يتسمع لي القرآن دوما فكنت أقف عند قوله تعالى من آخر سورة آل عمران "لا يغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد.."
كنت أقف وأقول له لا يغرنَّك تقلب البعثيين في البلاد..
إنها مرة أخرى ذكريات من حديقة الذاكرة..