غريب كيف أنه كلما تقدم بنا العمر عادت بنا الذكريات، خاصة لأحداث نريدها أن تدفن، ولكنها تتضح وتتبلور كأنها حدثت بالأمس القريب، وفي مثل هذا الشهر الفضيل تلاحقنا بكل إصرار لا لشيء سوى أن تطهرنا من ذنوب تطالب، ليس فقط بحق الاعتراف بها ولكن أيضا بطلب المغفرة، عملية مواجهة مع النفس، العملية الجراحية الوحيدة التي لا ينفع معها أي نوع من التخدير، وإلا فلن يصدر عنها سوى شهادة مزورة تفيد بخلو الضمير من الأوجاع.. متى يكف هذا الضمير عن نبضه؟! فكلما دخلنا في روحانية الشهر الفضيل وبدأنا نغسل دواخلنا من شوائب تتراكم تحت كل مسام بل في عمق كل خلية من أجسادنا يفاجئنا ماض تحول إلى حاضر.

كان اسمها ألمانيا قديما يدل على النبل واللطف واللين والعطاء، أخذ من أصله العربي فقط معنى العدل، ليت تلك المعاني السامية أثرت على من حولها، فالتزموا على الأقل ولو بصفة واحدة مما حمل اسمها وعوملت على هذا الأساس، لكن كان محكوما عليها أن تتعرض لشراسة تعديات بنيت على شكلها الخارجي، لا لأي خلل في روحها أو نقائها أو براءة طفولتها، والأطفال أكثر من يتعامل على أساس الشكل لا المعنى، بل لأنها كانت ذات جسم نحيل يعتليه رأس كبير، وهنا أعني "كبيرا" بكل ما تعنيه الكلمة، جبين بارز بشكل إن وقفت من أعلى فلن ترى سواه، وعلى يدها اليسرى زرعت خمس دوائر صغيرة، كانت تستخدمها لمساندة يدها الأخرى، بهذه الهيئة كانت تطل علينا كل صباح مع جرس الطابور، فكنا نسارع إلى التجمع بطريقة لا تسمح لها بأن تقف إلى جانب أي منا، وإن حاولت وجدت الجملة المعهودة: "لا يوجد مكان"، وتظل تتنقل من صف إلى صف حتى تصرخ فيها المشرفة أن تسرع وتنتظم، فترتجف خوفا وتقف في آخر الطابور وحيدة، كنا نخاف أن نحتك بها وكأنها مرض معد، وحين يحصل غياب، وحصل كثيرا، يا ويل من تقف بجانبها من استهزاء البقية، قد يطول لليوم التالي، ورغم صلواتي المتكررة بأن لا ينتهي بها الأمر إلى جانبي، حدث وأن وقفت بجانبي لأكثر من مرة، حينها كنت أبتعد لأكثر ما يسمح لي المكان، فأدير بوجهي وأتظاهر بانشغالي بأي مشهد عابر، وقلبي يغوص في أعماقي لانصياعي للجماعة وعدم الإصغاء لتنبيهات أجهل مصدرها، فيلتبسني الشعور بالذنب ويشلني تماما فكرا وسلوكا، أما هي فلم تعترض يوما أو حتى تدافع عن نفسها، كانت فقط تنظر أمامها مباشرة بوجه يحمل تعابير غير قابلة للقراءة، وتسير ذهابا وإيابا حتى تنتهي إلى مكانها المعهود، لا أدري لماذا كانت تصر على معاودة المحاولة كل صباح والتعرض لنفس الألم والمعاناة!

أشعر بالخجل من الاعتراف بأنني وبكل بساطة كنت جبانة، لم أقف بوجه البقية للدفاع عنها أو على الأقل، تقربت منها وتعرفت إليها أكثر، ضاربة الحائط بكل ما يمكن أن يصلني من أذى عبارات جارحة أو سلوكيات استقصائية، ولكنني حينها خفت أن أكون الضحية التالية، خفت أن أصبح هي، وفضلت الوقوف إلى جانب الجاني بدلا من المجني عليه، وحين أحاسب نفسي أتساءل: ماذا كان سيحدث لو أنني تحدثت إليها، دعوتها للوقف بجانبي، صحيح أنني لم يحدث أن رفضت وقوفها إلى جانبي، ولكنني بنفس الوقت لم أمنع البقية من الصراخ في وجهها تحديا وتنبيهاً، وبناء عليه حكمت على نفسي، أنا كنت جبانة! وأتساءل كلما زار طيفها خيالي، أي نوع من الشخصيات انتهت بعد كل ما عانته في طفولتها، بعد هذا الهجوم المستمر لاحترام الذات والكرامة الممزقة التي تركت أشلاءها في الرواق ما بين الساحة والغرف الدراسية؟ أفكار تهاجمني وتصر علي بألا أسامح نفسي، على الأقل لم أصل أن ينتهي عذابها ويتوقف الجميع عن مضايقتها، وبدلا من ذلك صليت لنفسي!

ربما لم أتمكن من ذلك حينها، لأنني كنت طفلة في الصفوف الأولى من المرحلة الابتدائية، وهي لم تستمر في المدرسة، انتقلت، إلى أين لا أعرف، ولكن الذي أعرفه، أنني خلعت لباس الحزن بخروجها من حياتي حينها، ولكن هل خرجت بالفعل؟ أم هي دخلت دمائي ولم تفارقني يوما! قد أكون خذلتها وخذلت نفسي يوم لم أكن أفكر إلا بنفسي، ولكن بعدها وحين تطور ونما لدي الضمير الإنساني، بدأت بالصلاة لها ولغيرها، وأدعو الله سبحانه ألا يمر أي شخص في خندق الكراهية التي لا أساس لها، ألا يكون هدفا للاستهزاء وتحطيم الذات. أدعو الله أن ينعم على الأطفال شخصيات تلاحظ هذه السلوكيات وتوقفها عند انطلاقها، قبل أن تأتي على ما تبقى من طفولة ما. أدعو الله أن يتعامل الجميع بكرامة ومحبة. والآن لقد آن الأوان أن أطلب السماح والمغفرة منها، أجهل أين هي الآن، وإلى أي مصير انتهت، ولكني أؤمن بأن جزءا منها داخل كل منا، لأن هنالك جزءا أساء أو تعرض للإساءة يوما ما، ظلم أو عانى نوعا من الظلم، وقد يحمل بعضا من الضغينة والبغض، أطلب الغفران من خلال دعوة إلى كسر سلسلة الضحايا والجناة، فنحن بالنضج الكافي بحيث ندرك مدى الأذى الذي يلحق الغير من خلال تخلينا عن الدفاع عند الحاجة، من خلال الوقوف بوجه كل من يتعدى على إنسانية الغير، بأن العزة والكرامة لا تأتي إلا بالتوكل على الله، وأنه لا راحة في رحاب الجبن.