كلما شاهدت قناة "القرآن الكريم" الفضائية التابعة لشبكة القنوات السعودية، وكان القارئ الشيخ عبدالله خياط (رحمه الله) تعود بي الذاكرة لأكثر من ثلاثين عاما، وأنا في الرابعة أو الخامسة من عمري، حيث كنت أسمع هذا الصوت الجميل يصدر كل صباح من "الراديو" الخاص بوالدي. وعلى الرغم من أنني كنت وقتها لا أفهم ما يقوله بحكم صغر السن، إلا أن لذة الاستماع ما زالت تسري في داخلي حتى الآن. بالطبع هناك قراء كبار سواء من القدماء مثل الشيخ عبدالباسط عبدالصمد أو المعاصرين كـ"ماهرالمعيقلي" و"عبدالولي الأركاني" وغيرهم كثر، يحلقون بالإنسان إلى عالم من الروحانية ليس له حدود. ولكن ذكري هنا للشيخ "خياط" يأتي لأنه تعلق بالذاكرة منذ الصغر. ما أجزم به أن وجود قناة "القرآن الكريم" وأختها "السنة النبوية" ونقلهما المباشر لكل زوايا الحرم المكي الشريف وعلى مدار الساعة؛ من أكثر المبادرات الإعلامية المحلية التي حققت حضورا كبيرا على مستوى العالم، على الرغم من أنها فكرة بسيطة وبإمكانات بسيطة بالعرف الإعلامي المعروف حاليا. ولعل المشهد الذي ظهر في آخر حلقة مساء أول من أمس من مسلسل "طاش 18" أبلغ دليل على ذلك، حيث جاءت توبة الوالد (السدحان) من السُكر والعربدة بعد أن سمع ـ بإصغاء ـ إحدى الآيات بصوت الشيخ المعيقلي في قناة "القرآن الكريم" التي تطهر أجواء الفضاء العربي من أدرانه اليومية، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الفنية. وبمناسبة الحديث عن وضع القنوات الفضائية التي تهتم ببث تلاوات القرآن الكريم، يمكن ملاحظة الغياب الواضح للبرامج التي تتناول تفسير القرآن تفسيرا عميقا، كما كان يفعل الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله. فبرامجنا الدينية انشغلت بالفتاوى الجاهزة التي تطلق أحيانا في لحظات دون روية، وربما من غير العلماء المتمكنين. ففي القرآن الكريم أسرار لغوية وأخلاقية وتربوية، يحتاج الناس في العصر الحاضر إلى سماعها من متخصص أوعالم حقيقي، خصوصا بعد أن طغت المظاهر القشورية والسطحية على تعاملاتنا ونظرتنا للدين وللمتدينين بشكل عام، مما فتح المجال لمستغلي الدين لتحقيق أهداف شخصية ودنيوية، والتلبس بمظاهر لا تعبر عن داخل وواقع الشخص كما هو حقيقة، بل من مبدأ جواز المرور لعقول و"جيوب" الكثيرين من أفراد المجتمع. وكأني بأحدهم يصيح "يا قنواتنا الدينية.. نحن نحتاج خُلق القرآن فقط، ولسنا معنيين كثيرا باختلاف الفقهاء وصراعات الطوائف على مر العصور".