كانَ ـ في سالف الفن والجمال ـ ذا حضورٍ دائمٍ في أحداقنا وأسماعِنا، وصارَ ـ في حاضر الخلط والغياب ـ ذا غيابٍ دائمٍ إلا عن عيون محبّيه وأسماعِهم.
جميل محمود، أو "العم جميل"، كما يناديه الأقربون إليه من المكّيين، ضابطٌ استطاع أن يضبط نبضاتِ قلبِه على مقامات الموسيقا، و"مجسّات" الحجازيين، وآهات العاشقين، من اللاجئين إلى الفنّ بوصفه ملاذ الأرواح، ومأوى الأفئدة، ومستراح المشاعر.
أبو سهيل، ذو الأولويّات التي تغيب عن أذهان أجيال "الراب"، ومحبّي "السامبا"، ممن يجهلون "السيكا"، و"الرصد"، ولم تمنحهم السنوات فرصة انتظار برنامج أسبوعيٍّ اسمه "وتر وسمر"، وبه كان "العم جميل" مالئ الأسماع والأبصار، ومخرج الكنوز الفنية من أزقة الحارات، ودهاليز الغياب.
من مفارقات الحياة والإعلام؛ أنّ "العم جميل"، الغائب الآن عن الشاشات كلِّها، كان أوّل الحاضرين على وجهها المصقول، فهو أول فنان سعودي يظهر على شاشة تلفزيون؛ حينها لم يكن إلا تلفزيون "أرامكو"، وكان الضابط الفنّان جميل محمود مديراً لمرور المنطقة الشرقية.. حينها طلب منه تلفزيون "أرامكو" تسجيل بعض أغنياته، فسجّل وعُرضت، وكان التسجيل آنذاك سينمائياً.
يقول العارفون به: إنه كان يستمع إلى أغنية أم كلثوم، مساء يوم الجمعة، ويغنيها لأصدقائه كاملة، مساء يوم السبت، وتلك درجةٌ قصيّة في حبّ الفنّ للفنّ بوصفه قيمةً، لا بوصفه سلّماً، وهذا سرُّ من أسرار الغياب؛ ذلك أنّ الباحثين عن نشيدٍ آخر للحياة، لا يجيدون البحثَ عن مجدٍ يمرُّ عبر أجداث أناشيد الحياة.
ويقول المتعاملون معه: مشكلة "العم جميل"، أنّه فنّان أكبر من قدرات الشباب، ولذا فإنّه حين يُقدّم لأحدهم لحناً، يصرّ على أن يكون الأداءُ حَرْفيّاً، وإلا فإن الغضبة ستحلّ على الفنّان الشاب، ما لم يحتذ اللحن ـ كما يريده الضابط الفنّان ـ حذو الهمسة بالهمسة، والقرار بالقرار.. ولذا يتأخر الشباب عنه أكثر من أن يتقدّموا إليه، خوفاً من أن تنزجر مواهبُهم، أو يغضبَ رمزُهم.
المطوف العقيد المتقاعد لم يستطع الفصل بين العسكريّ الحازم، الذي يرى في الأمر طريقاً واحدةً نحو الضّبط والإجادة، وبين الفنّان الذي يقبل من الأجيال الفنّيّة الجديدة الخروج عن قواعد الغناء كما وعاها "العم جميل"، سماعاً عن محمد بن عبدالوهاب، وأم كلثوم، وصالح عبدالحي، ومحمد علي سندي، وسلامة حجازي، أو كما تعلمها في القاهرة على يد محمد عليوه.
جميل محمود يلحّن "القصيدة"، فيجعل منها نجمةً تدخل في الصدور، ويبقيها في الحناجر، وكأنّها نغمٌ لا يبرح التموّج بين حبلٍ صوتيٍّ وآخر.
لحن قصيدة "سمراء"، ليحيى توفيق عشرة ألحان ـ كما يقول ـ بيد أنه لا يذكر منها سوى اللحن الأخير الذي تُغنى به الآن.. وهذه الرواية دليلٌ على قدرة فائقة، وذائقة أصيلة تعي الفرق بين "الشعر" و"الكلام"، ومؤشّرٌ إلى أن للقصيدة عاشقيها ممن يلحنونها لأنها "قصيدة"، لا ليُقال" إنهم استطاعوا أن يلحنوا قصيدة.
جميل محمود، صفحاتٌ أصيلةٌ من تاريخ الأغنية السعوديّة، بل ومن تاريخ الأمن العام في بلادنا، قبل ما يزيد على 45 عاماَ.
دُرر "أبو سهيل" الكثيرة، لم تخرج من طين خطواته، ولم تغادر جدران "أحديته" الفنّية، وإن تسلّلت من ثقوب ذاكرتنا التي استطاعت أن تنسى، لكنها لن تنسى "سمراء"، و"سمار ياسمّار"، والثنائي البديع: "العم جميل"، ورفيق دربه الشاعر الراحل "العم عبدالرحمن حجازي".