-1-
حاولت العولمة لعب دور فعال في الغرب لتشكيل قيم القرن الحادي والعشرين. والحكم عليها بالنجاح أو الفشل ما زال مبكراً حتى الآن، سيما ونحن لم نغادر بعد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلا في الأمس القريب. وقد انشغل في دور الجمالية Aesthetic في تشكيل قيم القرن الحادي والعشرين كبار المفكرين والفلاسفة من أنحاء متفرقة من العالم، نظراً لدور الجمالية الكبير في تشكيل قيم معظم القرون السابقة. ومن هؤلاء المفكرين والفلاسفة المفكر الألماني ولفانغ والش، أستاذ الفلسفة النظرية في جامعة إيانا الألمانية والمتخصص في النظرية الجمالية ونظرية الفن وفلسفة الثقافة. ومن مؤلفاته: "التفكير بالجماليات"، و"على حدود علم الجمال"، و"علم الجمال وما بعد"، وغيرها.
-2-
قد يبدو مستهجناً أن نقيم علاقة بين الجمالية وبين القيم الأخلاقية، خاصة بعد أن تمَّ الفشل في إقامة علاقة من هذا القبيل بين الاقتصاد أو السياسة وبين القيم الأخلاقية، ولكن والش يؤكد أن الجمالية يمكنها أن تحارب التشظي في حياتنا، وإعادة نشر القيم النبيلة فيها، خاصة إذا مارسنا قيماً فنية رفيعة، وابتعدنا عن الإسفاف، والصبغة التجارية للفن وللجمال، وحاربنا اتخاذ البعض لتجميل الحياة اليومية؛ مهنة يرتزقون من ورائها. وبهذا تصبح الجمالية فعلاً ذات دور إيجابي فعال في حياتنا، حين تسعى إلى تحريرنا من أوهام وأفكار بالية.
-3-
ووالش يهاجم التجميل المبتذل. ويُفرِّق بين الجمال والتجميل، ويقول إن التجميل المبتذل الكامل للواقع اليومي يجعل الفن غير مجدٍ. ففي مجتمع، وفي محيط مبالغ في جماليته المبتذلة لا نعود بحاجة إلى الفن، حيث يصبح من الصعب أن نميز بين ما هو فني بالفعل، وبين ما هو مزيف. وكان الفيلسوف الفرنسي جان بودريار قد قال: "إن الجمالية المبتذلة تحفر قبر الفن". وهذا ما هو قائم الآن في العالم العربي بالنسبة إلى فن الغناء مثلاً. فهذا الابتذال وهذا الإسفاف اليومي في الموسيقى والأغاني الهابطة لمحاولة تجميل الواقع العربي في جانب من جوانبه البشعة قد حفر قبر الفن الغنائي العربي الأصيل، ودفنه، كما هو الحال اليوم.
-4-
الطريف في بحث والش عن دور الجمالية في قيم القرن الحادي والعشرين تأكيده على أن المدارس والأساليب الفنية الغامضة في كافة الفنون، وخاصة في الرسم، والنحت، وخلاف ذلك، والتي اعتبرت مدارس صعبة الفهم والإدراك لدى العامة جاءت رداً على تفاهة وإسفاف كثير من الأعمال الفنية الهابطة، التي تحاول تجميل حياتنا اليومية بابتذال شديد. وفي هذا الشأن يقول والش صراحة: "نظراً لعمق الفشل يمكننا أن نفهم كيف أن مجموعة أخرى من الفنانين سلكت الطريق المعاكس لتواجه الابتذال الجمالي، وقررت معارضة هذا الابتذال بأي ثمن، وهؤلاء ينتجون أعمالاً فنية صعبة وغير مفهومة، للوقوف في وجه تجميل الواقع اليومي بشكل مبتذل، وبهذا يحافظون على تمايز الفن، ويبقونه على وجه الحياة".
-5-
ولكن والش يؤكد أن الصمود في وجه الابتذال الجمالي اليومي لا يعني بأي حال من الأحوال أن نقاوم هذا الابتذال؛ بقدر ما نحن بحاجة إلى المساهمة في تغييره. فنحن عادة لا نخرج من نظام ما عن طريق معارضته، ولكننا نخضع له، ونحاول في الوقت نفسه تغييره إلى الأصلح. وعلينا أن لا نسمح لـ"الآلة الثقافية" التي تتحكم، وتحكم حياتنا اليومية، بأن تُفقدنا المفاهيم النبيلة للقيمة الجمالية الحقيقية والأصيلة.
-6-
وبعد، كيف يمكن للجمالية الرفيعة ـ لا المبتذلة ـ أن تلعب دوراً في بناء قيم القرن الحادي والعشرين؟ هناك الكثير من الوسائل ـ برأي والش ـ منها:
1- النظر إلى القيم نظرة متجددة. واعتبار القيم ليست قيم أمة من الأمم، وإنما هي قيم الإنسانية جمعاء، لذا يجب أخذ اعتبار الأمم الأخرى في بناء وتكوين وتبني القيم.
2- إن القيم النبيلة في كل أمة من الأمم تفرض على كل أمة أن تحترم قيم الأمم الأخرى. ومن هنا ينادي والش بأن تكون القيم ليست خاصة بإنسان معين، بقدر ما يجب أن تكون تكاملية، تشمل الإنسانية جمعاء.
3- نحتاج في القرن الحادي والعشرين إلى إعادة تفسير القيم، وخاصة تلك القيم التي تم استنباطها من الحداثة. فالاستقلالية ـ مثلاً ـ يمكن أن ينظر إليها على أنها جزئية أو منحازة، بينما الحقيقة هي أن يتم دمجها في إطار إنساني واسع ومتطور. وهذا الإطار يجب أن يكون من السعة؛ بحيث يشمل الكون كله، وليس منطقة واحدة من العالم. وهذا يقتضي منا أن نطرح موضوع القيم ـ المهم والحسّاس ـ بحكمة وروية، وهذه الحكمة والروية تتطلب منا أن نفهم جيداً واقعنا المعاش. فالبناء على واقع غير مفهوم وغير مُدرك ينتهي بنا إلى مخاطر كثيرة. فأفكار التغيير والإصلاح ـ على سبيل المثال ـ موجودة في كل الرؤوس، ولكن المهم ليست الأفكار بقدر ما هي الطريقة التي يجب بها تطبيق هذه الأفكار.
4- وأخيراً، لكل أمة قيمها الخاصة وقيمها العامة. وفي كلتا الحالتين يجب أن يكون التسامح لبّ القيم العامة والخاصة، وأن لا تكون القيم الخاصة مدعاة لإيذاء الآخرين لعدم أخذهم بها. ومتى أصبحت القيم مدعاة لإيذاء الآخرين والعدوان عليهم لمعارضتها قيمهم الخاصة، فقد تحولت إلى شرور وضرر. وأصبحت مسالك الهالكين.