في كل المجالات يبقى التنظير البعيد عن ملامسة الواقع والتعامل مع الهم اليومي، مجرد حبر على ورق،لا يقدم حلولا عملية، بقدر ما يثير الغبار وقد يلغي جهود وعرق المخلصين. ففي مكة المكرمة مثلا كثر الحديث عن أهمية الموازنة بين التاريخ العريق لهذا المكان الأكثر قدسية في العالم وبين تطوير الخدمات وتوفير أماكن الإيواء المناسبة لمئات الألوف يوميا. ولكن من ينظر بعين الحقيقة لصعوبة تضاريس المكان ومحدودية المساحة في ظل الأعداد الهائلة جدا التي تأتي في اللحظة نفسها إلى بيت الله الحرام، يدرك صعوبة المهمة،وتدور في ذهنه الكثير من التساؤلات منها: أين سيذهب هؤلاء؟ إذن فالحقيقة على الأرض تقول إن التحدي الكبير هو في تقديم خدمة عصرية لقاصدي البيت العتيق الذين يتضاعفون على مدار العام خصوصا بعد فتح "تأشيرة العمرة". ولكن مع ذلك هناك حقيقة أخرى على الأرض كذلك، وهي أنه كان بالإمكان الحفاظ على الكثير من المعالم التاريخية التي تخلد سيرة أمة، في مساحات لا تتعدى بضعة أمتار، يمكن إحاطتها بسياج حديدي ووضع لوحات إرشادية عليها لا أكثر ولا أقل. وأعتقد أن هذا الدور منوط بالهيئة العامة للسياحة والآثار بالتعاون مع أمانة العاصمة المقدسة والجهات الشرعية الأخرى. أما إذا انتقلنا من الماضي إلى الحاضر وبعد أن أصبحنا نتداول مصطلح "السياحة الدينية" بعد فتح تأشيرات العمرة والزيارة على مدار العام، فإنه يمكن أن أشير هنا إلى أن الكثير من الأماكن التجارية والمطاعم ودور الإيواء المحيطة بالحرم المكي، تحتاج إلى إعادة نظر وتقييم شامل من قبل الجهتين المعنيتين وهما الهيئة العامة للسياحة والآثار وأمانة العاصمة المقدسة، فهذه الأماكن هي أهم واجهة سياحية ودينية للمملكة دون أدنى شك. ولكن وللحق يبدو أنها ما زالت بعيدة عن المتابعة والتقييم، فمستوى الخدمة في بعض مراكز الإيواء والخدمات المساندة كالمطاعم والأسواق غير مرض وغير كاف لاستيعاب الأعداد الهائلة، ولعلي أضرب مثلا هنا بالمنشآت السكنية والمحلات التجارية الموجودة في شارع قريب من الحرم المكي الشريف مثل شارع "المسيال"، فعلى امتداد هذا الشارع لا يوجد محل تموينات غذائية واستهلاكية سوى بقالة صغيرة لم تعد تجد لها مثلا حتى في القرى، ومع ذلك تزدحم جدا بالمتسوقين، عدا عن أن خدمة" صرافات البنوك" معدومة ومستوى النظافة متدن جدا.

وبالطبع هذا نموذج بسيط لما في الأحياء الشعبية الأخرى التي لا تحتاج إلى هدم بقدر ما تحتاج إلى فكر هندسي يطور خدماتها ويحافظ على عبقها التاريخي الفريد، وهنا يمكن الاستفادة من تجارب دولية كثيرة في هذا المجال.