يقول الدكتور القصيبي - رحمه الله- في مقدمة الكتاب "حرصت على أن تبقى الانطباعات كما دونتها أول مرة، منذ سنين طويلة، دون أن أحاول تصحيح، أو تعديل، ما كتبته في ضوء التطورات اللاحقة".

قصد القصيبي بـ"الانطباعات"، تلك التي كونها عندما كان يكلف كوزير بمرافقة أحد ضيوف المملكة، فقد حظي بفرصة معرفة كبار الساسة العالميين، من جيمي كارتر وريغان، إلى الملكة إليزابيث، إلى مستشاري ألمانيا هيلموث شميدت، وهيلموت كول، وصولاً إلى عيدي أمين والقذافي، مروراً بأنديرا غاندي وفرانسوا ميتران، وبالتأكيد فقد عرج القصيبي على البيت العربي في مقالة مطولة "فاس.. بين قمتين"، مظهراً نقائض البيت العربي عشية مبادرة الأمير فهد بن عبدالعزيز، ولاحقاً مبادرة خادم الحرمين الشريفين، وواضعاً تفاصيل عن القمتين تأتي في مقام المضحك المبكي الذي ينضح به بيت الجامعة العربية عن جدارة واستحقاق، ودون التقليل من أهمية الجهود الصادقة لقادة الجامعة وبعض قادة العرب، التي طالما اصطدمت بنرجسيات بعض آخر من هؤلاء القادة، والتي أدارت بحيرة الصمت العربي إلى مزيد من المراوحة والدوران في المكان، فما كان الخاسر إلا الحق العربي والمواطن العربي، في مقابل تألق الأوسمة، التي لم تكن جزاء تحرير أو بناء، فالأرض تتقلص، والمياه تغيض، والكرامات تنزف.

يختصر القصيبي جانباً هاماً من حياته المهنية والعامة في خدمة المملكة والقضايا العربية مكلفاً من قادة المملكة، غير أن هذا الجهد يجد مقامه الرفيع في تلك اللغة الأدبية الضافية، وفي خفة الدم، وحدة الذهن التي جعلته ينقل حركات وسكنات زمانه من خلال أولئك القادة الذي صنعوا تاريخاً لأممهم، وإن كان بعض قادتنا العرب هدموا أكثر بكثير مما بنوا. والقصيبي، رحمه الله، ظهر في كتابه كواحد من الظرفاء الذين يشار إليهم بالبنان، وهنا لابد من استشهادات مطولة بفقرات من مقالات متفرقة، إذ لا تغني الإشارات، وحين يحضر البيان الواضح لا تلزم الشروح. أما خفة الدم، وهي دليل حِدة الذهن، فينقل منها القصيبي أنه في تقديمه لشخصية المستشار الألماني هيلموت كول يروي أنه تمنى على المراسم أن تعد حقيبة ملأى بالثياب السعودية للمستشار الألماني هيلوث كول، فأبدى كول إعجابه بالزي السعودي واستطرد: تصور لو ذهبت إلى البرلمان الألماني لابساً هذا الزي. قلت له: أعتقد أن رد الفعل سوف يكون ممتازاً. سوف يكون بوسعك أن تقول لقد حاول السعوديون أن يشتروا مني دبابات، ولكني أقنعتهم بدلاً من ذلك أن يبيعوني ثياباً.

أما الروايات التي ينقلها القصيبي، خاصة عن القذافي وعيدي أمين، فتستحق وحدها أن تُقدم للقارئ كاملة. وينقل القصيبي أن الرئيس حافظ الأسد روى كيف عرض عليه عيدي أمين مرة أن يزوده بحرس خاص من أوغندا جميعهم من الأقزام: قال لي هؤلاء الأقزام نافعون للغاية. وحجمهم يساعدهم على حمايتك حماية ممتازة. بإمكانهم أن يختفوا تحت الكرسي الذي تجلس عليه. أو تحت الطاولة. ثم يظهرون فجأة من تحت أقدامك.

جاء الكتاب في 209 صفحات، وقد صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، 2010.

ففي مقالة "فاس.. بين قمتين"، كان مقعد الملك فهد في القاعة بين رئيس السودان ورئيس جيبوتي. ويروي القصيبي من طرائف الرئيس الجيبوتي، أنه تقرر عقد اجتماع للقادة وحدهم، فاقترح ملك المغرب الحسن الثاني حضور عضوين مع القائد "طلب الرئيس الجيبوتي من الملك فهد أن يشرح له المقصود. ولما أوضح له الملك فهد ردَّ بلكنته العربية المكسرة: اثنين وزير؟ أنا عندي أربعة! أنا فين حط الباقي؟ حطه في جيبي!".


من طرائف الكتاب

•يغمز القصيبي في الكتاب من قناة مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر، برجنسكي، الذي لا يكف عن الحديث وعن محاولة استعراض معلوماته. وكان يدلي بتعميمات غريبة، مثل "البرتغاليون مسالمون بطبيعتهم"، "الإسبان ميالون إلى الخلاف بطبيعتهم"،.. ويعلق القصيبي" إن الشعب، أي شعب، ظاهرة أشد تعقيداً من أن تنقاد للأحكام "البرجنسكية".

• القصص الغريبة، والملاحظات الذكية لا تخلو منها صفحة في الكتاب، ومنها سؤاله للسيدة أنديرا غاندي في الرياض: يروي أولئك الكتاب قصصاً غريبة عن غاندي. يقولون إن سفره بالدرجة الثالثة كان يكلف الدولة أضعاف أضعاف التكلفة لو أنه سافر في مقصورة خاصة في الدرجة الأولى. فردت غاندي: هذا صحيح! كانت أجهزة الأمن تضطر إلى أن تخلي الدرجة الثالثة بأكملها من كل الركاب. كان من الأسهل والأرخص أن يسافر في مقصورة خاصة.

• كان غاندي يصر على أغذية "بسيطة" أينما يذهب. صحيح أن هذه الأطعمة كانت "بسيطة"، ولكنها قد لا تتوافر دائماً. كنا جميعاً نشعر بالقلق عندما ينزل غاندي ضيفاً في بيتنا.