تتحول المشاعر المقدسة هذه الأيام إلى أكبر مطبخ مفتوح في العالم. مدينة مبنية بالكامل من الخيام البيضاء، على صعيد عرفات الله ومزدلفة ومنى، يسكنها أكثر من ثلاثة ملايين حاج، ومئات الآلاف من العاملين في مجال الخدمات المساندة، يعملون على مدار الساعة في منظومة متكاملة هدفها الرئيس إقامة مائدة عامرة بثلاث وجبات يوميا، لإطعام وشراب الأفواه التي تلهج بالتلبية والتهليل ليل نهار، وعلى مدى خمسة أيام فقط من كل عام.
منى، التي يبقى فيها الحجاج غالبية أيام موسم الحج، تبدو كأنها مدينة عصرية تنتشر حول خيامها وطرقاتها الفسيحة مطاعم الوجبات السريعة، والمطاعم العالمية التي تقدم أصنافا متنوعة من المأكولات وفقا لرغبات الحجاج بدءا من الكبسة السعودية، ومرورا بالمشويات التركية والأرز البرياني باللحم أو الدجاج والعصيدة الإفريقية، وانتهاء بأطباق الكاري والاندومي والساتي، لحجاج الهند وباكستان وجنوب شرق آسيا.
عشرات المخابز الآلية تدفع بملايين ربطات الخبز والمعجنات والحلويات للمشاعر في كل ساعة للوفاء باحتياجات الحجاج. ومئات من قوافل الشاحنات المحملة بالمياه المعدنية والغازية، ومشتقات الألبان والعصائر الجاهزة، وبأصناف عدة من الفواكه الموسمية والحمضيات الطازجة التي يزداد الإقبال عليها كوجبات خفيفة سهلة الهضم، ولفوائدها الصحية في مكافحة الرشح والزكام والأمراض العارضة.
وما يدفع بملايين الحجاج إلى الاعتماد على أنفسهم في توفير الوجبات الغذائية اليومية هو سهولة ووفرة الطعام الذي يمكن شراؤه من المطاعم والكافيتريات، إضافة إلى تسابق أهل الخير من الموسرين إلى إقامة مخيمات خاصة تقدم فيها خدمات الأكل والشراب مجانا طلبا في أجر خدمة ضيوف الرحمن.
الإعاشة
في المقابل تتنافس مجموعات الخدمة الميدانية التابعة لمؤسسات الطوافة والفنادق الكبيرة وشركات التغذية ومطاعم الوجبات السريعة والمطاعم الأخرى على إعاشة الحجاج خلال يوم التروية بمنى، ويوم عرفة، وليلة المبيت في مزدلفة، وأيام التشريق الثلاثة في منى مرة أخرى، حيث تحرص مؤسسات الطوافة الست (حجاج الدول العربية، حجاج إفريقيا غير العربية، حجاج إيران، حجاج تركيا ومسلمي أوروبا وأمريكا وأستراليا، وحجاج جنوب شرق آسيا، وحجاج جنوب آسيا) على توفير خدمات الإعاشة، لمن يرغب من الحجاج ووفق شروط التعاقد المسبق، والذي يشمل نوعية الوجبات المطلوبة بحسب ذائقة كل جنسية من الحجاج.
ويؤكد رئيس الهيئة التنسيقية لمؤسسات أرباب الطوائف فائق بياري أن مؤسسات الطوافة تحصل على (166) ريالا فقط (نحو 44 دولارا) طوال أكثر من (30) عاما مقابل خدمات الاستقبال والتوديع في المطار، والإشراف على خدمات السكن في العاصمة المقدسة، وتجهيز المخيمات في منى وعرفات وفرشها ومتابعة تنقلات الحجاج في المشاعر وحتى مغادرة الديار المقدسة بعد أداء الفريضة. ولا تشمل الخدمات التي تقدمها المؤسسات خدمات الإعاشة إلا للحجاج الراغبين في ذلك وفقا لتعاقدات تتم بين المؤسسات والبعثات أو الشركات السياحية.
وأشار بياري إلى أن نظام إعاشة الحجاج في المشاعر المقدسة يختلف من مؤسسة لأخرى وإن كانت الشريحة الكبرى من الحجاج لا تقدم لهم إعاشة في المشاعر المقدسة. فمؤسسة حجاج الدول العربية لا تقدم وجبات للحجاج الذين تقوم على خدمتهم ولكن الحجاج الراغبين في الإعاشة يتم توفير الإعاشة لهم وفقا لرغباتهم فالبعض يريد وجبات بنظام البوفيه المفتوح، وتقوم المؤسسة بالتعاقد مع عدد من الفنادق الكبيرة لتوفير الوجبات لهم، والبعض الأخر يريد وجبات أخرى مثل المشويات والإيدامات بأنواعها وتتعاقد المؤسسة مع عدد من شركات الإعاشة المرخصة من قبل أمانة العاصمة المقدسة لتوفير الوجبات للحجاج وفقا لرغباتهم وعادة ما تكون الوجبات كبسة باللحم أو الدجاج مبينا أن الحجاج الذين يرغبون في الوجبات فئة قليلة إذا قورنت بأعداد الحجاج الذين تخدمهم المؤسسة والذين يزيد عددهم على الأربعمئة ألف حاج سنويا.
حسب الرغبة
وأوضح رئيس مؤسسة حجاج جنوب آسيا عدنان كاتب أن مجموعات الخدمة الميدانية التابعة للمؤسسة والبالغة (93) مجموعة لا تقدم الإعاشة للحجاج خلال وجودهم في المشاعر إلا إذا رغبوا في ذلك. ولكن هذه المجموعات حرصا منها على راحة الحجاج تقوم بتقديم وجبة ساخنة مجانا لكل حاج في يوم التروية ويوم عرفة وأيام التشريق حرصا منها على راحة الحجاج وهذه الوجبات إما تكون من الأرز البرياني واللحم أو الدجاج ومن الوجبات الجاهزة إضافة إلى المعجنات والشاي والقهوة على مدار الساعة.
وأوضح أن المجال متروك للحجاج للتعاقد مع مجموعات الخدمة على توفير وجبات معينة إن رغبوا في ذلك، مبينا أن المؤسسة تسعى إلى تطوير خدماتها رغم ثبات العوائد منذ بدء تشكيل مؤسسات الطوافة قبل حوالي ثلاثين عاما.
وبين رئيس مؤسسة حجاج إفريقيا غير العربية عبد الواحد سيف الدين أن المؤسسة بدأت منذ خمس سنوات في التوسع في الخدمات الإضافية التي تشمل إعاشة الحجاج في المشاعر وفقا لرغبات الحجاج. ووصل عدد الحجاج الذين سيتم توفير الإعاشة لهم هذا العام إلى خمسين ألف حاج من أصل مئة وثمانين ألف حاج تقوم المؤسسة على خدمتهم سنويا.
وأشار سيف الدين إلى أن الوجبات والأكلات الإفريقية مثل العصيدة (عصيدة ملا -عصيدة سميد) وأنواع الإيدامات كـ ( كوكا، وروغو، ومديد كونوروتوندويا) يتم توفيرها حسب الرغبة، ويتم إعدادها من قبل طباخات إفريقيات معروفات أو من خلال بعض المطابخ المتخصصة في إعداد الأكلات الإفريقية العاملة في مكة المكرمة.
وتختلف مؤسسة حجاج جنوب شرق آسيا عن المؤسسات الأخرى من خلال تقديم وجبات لعدد كبير من حجاجها كل عام. ووفقا لرئيس المؤسسة زهير سدايو فإن المؤسسة توفر الإعاشة لنحو 50 % من حجاج إندونيسيا البالغ عددهم (210) آلاف حاج من الجنسين، إضافة إلى حجاج الدول الأخرى الذين تخدمهم المؤسسة.
إندومي
وأشار سدايو إلى أن الوجبات تقدم وفقا لرغبات الحجاج وتشمل الأرز والكاري والسمك والإندومي والبيض المسلوق والعصائر والشاي والحليب. وتقدم الوجبات طوال فترة الحج في المشاعر المقدسة تحت إشراف فرق صحية تقوم بجولات على كل المخيمات خلال أوقات توزيع الوجبات في كل يوم وليلة.
ويؤكد رئيس مؤسسة حجاج إيران الدكتور طلال قطب أن المؤسسة لا تقدم خدمات الإعاشة لحجاجها في المشاعر المقدسة. ويوفر الحجاج الإيرانيون وجباتهم التي يريدونها بأنفسهم، ما عدا ليلة النفرة إلى مزدلفة حيث تقدم المؤسسة وجبة جافة للحجاج حرصا منها على راحتهم قبل وصولهم إلى مخيماتهم في مشعر منى.
ويشير رئيس مؤسسة حجاج تركيا ومسلمي أوروبا وأميركا وأستراليا فخري داغستاني إلى أن المؤسسة لا تقدم وجبات للحجاج خلال وجودهم في المشاعر المقدسة إلا في حال رغبتهم في ذلك، وبحسب ما يتم الاتفاق عليه مسبقا مع مسؤولي البعثات أو الشركات السياحية الأجنبية التي تشمل خدماتها إلى جانب النقل وخدمة الإعاشة لحجاجها. ولا يطلب خدمات الإعاشة إلا فئة قليلة جدا وتقدم لهم المشويات التركية المفضلة لديهم بكل أنواعها.
ويظل حجاج الداخل من المواطنين والمقيمين الأكثر حرصا على وجود الوجبات في المشاعر المقدسة من خلال التعاقد مع شركات ومؤسسات حجاج الداخل القائمة على خدمتهم والتي توفر لهم ثلاث وجبات يوميا وفي مواعيد مفتوحة أحيانا. ويشير رئيس لجنة الحج والعمرة بالغرفة التجارية الصناعية سعد القرشي إلى أن الوجبات التي تقدم لحجاج الداخل إما أن تكون بنظام البوفيه المفتوح أو تتنوع ما بين وجبات الأرز الطازجة مثل (السليق والمندي والكابلي) والوجبات السريعة مثل بروست الدجاج (البيك والطازج وكنتاكي)، إلا أن وجبات اللحوم تظل هي المفضلة والطبق الرئيس في كل الوجبات التي تقدم للحجاج السعوديين والخليجيين، حيث يتم التعاقد على نوعية الوجبات مقدما وقبل الوصول إلى المشاعر المقدسة.
وأوضح مدير عام صحة البيئة الدكتور محمد الفوتاوي أنه تم الترخيص لعدد من مطاعم الوجبات السريعة بكل أنواعها داخل المشاعر المقدسة لتقديم الوجبات للحجاج. مؤكدا خضوع جميع هذه المطاعم لرقابة دورية من الفرق الميدانية للتأكد من سلامة الوجبات الغذائية، وصلاحيتها للاستهلاك الآدمي، إضافة إلى متابعة المحلات والبقالات التي تبيع منتجات البسكويت والمعجنات بأنواعها إضافة إلى إشرافها الصحي على المبرات الخيرية التي تقدم الوجبات للحجاج مجانا في أيام موسم الحج.
لجنة لدراسة عوائد مؤسسات الطوافة الثابتة منذ 30 عاما
أكد وزير الحج الدكتور فؤاد فارسي في تصريحات سابقة أن مجلس الوزراء وجه قبل حوالي عامين بتشكيل لجنة من وزارتي الداخلية والحج وتضم عددا من الجهات المختصة لدراسة زيادة العوائد التي يحصل عليها المطوفون والزمامة والوكلاء والأدلاء خلال موسم الحج.
مشيرا إلى أن مؤسسات أرباب الطوائف ووزارة الحج تعكف على تقديم دراسة متكاملة عن العوائد التي تتقاضاها المؤسسات عن كل حاج، والتي لم تتغير منذ أكثر من ثلاثين عاما. وتشمل الدراسة قياس مستويات الخدمة التي من الممكن تقديمها للحجاج والأسعار المناسبة لها. وسيتم رفع نتائج هذه الدراسة للنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية رئيس لجنة الحج العليا للنظر فيها والتوجيه حيالها، أو بعرضها على لجنة الحج العليا ورفعها للمقام السامي الكريم للنظر بشأنها.