أحمد التيهاني


قبل أن تشترك العامة مع الخاصّة في الاختلاف حوله، وحول ما يصدر عنه من اجتهادات فقهية تتسم بالاستقلالية حينا، والغرابة أحيانا؛ يتراءى السؤالُ حول تعلّقه المستديم بجهات البرْد والبَرَد؟ وهو يقضي جلّ أشهر اللهيب الصيفي في قريةٍ وادعةٍ تتربّعُ على العرش الأعلى من قمّة السودة.

الجواب يمكن أن يكون يسيراً، عند النظر إلى مكان ولادتِه، ومدارج نشأته الأولى، فالشيخ عبد المحسن بن ناصر بن عبد الرحمن آل عبيكان، مولودٌ في الطائف المأنوس سنة 1372هـ ، وفيها أتمّ دراسته الثانوية، من خلال دار التوحيد، ذات الصيت الذائع في الدراسات الشرعية واللغوية؛ ولذا واصل المولود في المأنوس الأنس في جهات البرْد والبَرَد.

في الطائف، كان الشيخ الصغير يؤذن في الناس، ويؤمهم ـ أحياناً ـ في مسجد والده، وهو إذ ذاك طالبٌ في المرحلة المتوسطة، وهنا تتضحُ المعطيات الأولى، فالثقة بالنفس منذ المراحل العمرية المبكرة، تحقق للفرد القدرة على التحليل، وتمنحه أدوات النقد والتمحيص، وتدفعه إلى عدم التسليم إلا في الحالات الثابتة التي لا تستدعي خلافا، ولا يحسن معها اجتهاد.. ومن شرفةٍ أخرى يمكنا أن نطل على مؤشرٍ يقول: إن اندفاعات المراحل الأولى، تؤدي إلى اتزان المراحل التالية.

هذه النشأة وهبت الشيخ العبيكان، القدرة على مراجعة الكثير من المسائل القضائية والشرعية.. مراجعاتٍ يشعرُ معها الموضوعيون أنّه قريبٌ من الواقع، وأنه أنموذجٌ للعقل الفقهي الجديد، بما يحقق مواءمة الشريعة للحياة، ويجعل من فقه الواقع أداة مهمة للاعتدال.

إذا أراد مسلمٌ أن يشعر بالسلام مع النفس، بعد خطبة جمعة، فليكن جامعُ الجوهرة بالرياض الواقع على شارع الإمام فيصل بن تركي خيارَه، فهناك لن يستمع إلى التقريع، أو الوعيد.. ولن تلامس أذناه ألفاظ التصنيف والتعنيف، ولن يشعر أن خطبة الجمعة باتت منبراً لتصفية الحسابات الفكريّة، أو الإثارة للإثارة المجرّدة..

هناك، يستمع ويستمتع المصلون باللغة الهادئة التي تمنح الروح سموّها، وتزيل أسباب التشنج والغضب، وتمحو "نظريات الفسطاطين" عن الأذهان التي أصيبت بها، حتّى صارت داءً تصنيفياً يصعبُ تخليص العقل "البسيط"، وأخيه "المركب" من شوائبها.

ليس الشيخ العبيكان متساهلاً، كما يتوهم البعض، وليس متشدّداً كما يتوهم البعض المقابل، ولكنّه ـ بكلّ بساطة ـ مجتهد، لا يسير مع التيار، ولا يسلّم بالسائد تسليماً يجعل منه ثابتاً؛ فله "أدلة مهمة في وجوب الحجاب"، وله رأي فقهيٌّ متسامح في حكم العرضة والطبول، ومع المسألتين تعرض للهجوم من تيارين متضادين؛ أحدهما لا يريد أدلة على وجوب الحجاب، والآخر لا يريد أدلة على جواز العرضة والقرع بالطبول، وكل فريق يقول: "الحقّ كله معنا، والحقيقة لنا لا لسوانا".

العبيكان القاضي، استطاع أن يتدارك بضعة أخطاء قضائية متواترة، وهي متعلقة بحياتنا، وتفاصيلنا الجديدة، مثل: حكم المطالبة بالأرض المشغولة بالبناء، وقضايا الحضانة، وغيرهما مما يشتغل به الكاتبون، مطالبين بإرجاع النظر فيه كرّاتٍ، وعدم الاعتماد على القوالب الجاهزة، تحقيقاً للعدل، وتوافقاً مع الحياة الجديدة بكل تعرجاتها وتعقيداتها.

الشيخ العبيكان، يقابلُ من لا يعرف، فيشعر المجهول ـ عنده ـ أنه علَم، وأن الشيخ يعرف عنه أدق التفاصيل، وهنا، تأتي سمةُ التواضع، ومنح الناس أقدارهم، وإشعارهم بأنهم أهل عطاء وجهد.