الكتابة حاجة قبل أن تكون حالة. سواء أكانت فكرية أم أدبية، لا يعرف مداها سوى الكاتب الذي يعيشها ويحتاج إليها باستمرار للتخلص من أفكاره الضاغطة. سُئل الفيلسوف (نيتشه) ذات مرة: لماذا تكتب؟ فأجاب: "إن الكتابة بالنسبة لي حاجة؛ لأني لم أجد بعد وسيلة أخرى للتخلص من أفكاري". بينما يتصور الأديب (زفايغ) أن الكتابة أشبه بحالة قتل! لربما كان يقصد أن فعل الكتابة هو حالة قتل للأفكار بهدف تخليدها، بعد إخراجها من الذهن إلى الواقع، لتكون رسالة في إطار الشراكة الإنسانية بين الكاتب والمتلقي الذي قد يحييها أو يحاول قتلها مرتين!
الكتابة كائن حيّ. مثل كل شيء حيّ في هذه الدنيا، تحتاج إلى الحرية لتنمو مثل شجرة أو تتدفق مثل نهر. لا يمكن أن نمنع الشمس عن الشجرة وننتظر منها النمو، ولا يمكن أن نضع سداً أمام النهر وننتظر منه الجريان.
التنفس ضروري لكل كائن حي. فالنهر إذا حُبس سوف يتجاوز السد منفجراً، والشجرة إذا لم تتنفس ستموت واقفة بكبرياء. وبين هذا وتلك يكون الكبت، بكل أنواعه، أرضاً خصبة للإبداع. إنْ تاق عقل الكاتب فيه إلى نسمات الحرية أبدع، وإنْ استنشق نسماتها فعلياً أبدع. جميل أن تعيش يومك حراً، لا أحد يقتفي أثرك، ويطالبك-دون أن ينبس ببنت شفة- بأن تكون أي شيء آخر غير ذاتك.
وُلد الإنسان حراً، لكنه صنع الاستعباد. ومعضلة الإنسان الكبرى تتولّد من كونه لا يريد أن يعيش في العالم بل في عالمه الخاص. من حق أي إنسان أن يعيش ضمن حدوده التي يقرر، دون إضرار بحدود الآخرين، ومن حقه أن يعيش كيفما اختار لكن ليس من حقه أن يحشر بقية العالم في "عالمه" ويفرض عليهم ما لا يرتضون أو ما لا يرتضيه هو لنفسه! ولو افترضنا أننا نأكل يومياً صنفاً واحداً من الطعام، لا تعدد فيه ولا خيارات، تكون النتيجة، قبل أن نمل الطعام، فقراً غذائياً مدقعاً.
الأمر نفسه بالنسبة لتجدد الهواء، فالإنسان بحاجة إلى الهواء الطلق المشبع بالأوكسجين، وفي الأماكن المفتوحة أو المنفتحة، لا فرق، يكون الهواء الطلق. ومع الأسف أننا حين نكون في هذه الأماكن البعيدة، نكون أنفسنا، فتختفي كل سلبياتنا تماهياً مع العالم من حولنا. صحيح أنه ربما يجتاحنا شعور بالغربة في هذا العالم، أو الشعور بتغيرات الأجواء والأرض والسماء، غير أننا ما أن نتأمل قليلاً هذا الواقع الجديد أو البعيد، كلاهما صحيح، حتى نشعر بالدفء، وبحميمية الألوان، والأشكال والتصاميم، واختلاف الوجوه والأجساد والألسنة. فحين يشعر الإنسان بالحرية لن يهتم كثيراً لازدحام الأمكنة والشوارع الممتلئة بالمارة، ولا يلتفت للواقفين بهدوءٍ يتحدثون كالكروان.
في المدن الحالمة تتملك الإنسان الرغبة في المشي للاكتشاف. وأنا أعشق المشي بلا ملل، فحتى الشوارع الضيقة فيها تتسع، إذ تمنحها الألوان أفقاً أرحب، واختلاف طراز المباني يضفي عليها جمالاً أكثر. دخلت شارعاً مزدحماً، سرت فيه بزوايا متعددة دون أن أصطدم بأحد أو يصدمني أحد، الكل يمشي بنظامه الخاص ويحترم أنظمة الآخرين في المشي، استمعت لمعزوفات الجالسين والواقفين على الأرصفة، استمتعت بتمازج الثقافات والشعوب، والجهات الأربع في لحظة واحدة. دخلت الكثير من المحال التي تبيع تاريخ المدينة، تناولت طعاماً، وشربت قهوتي محاولاً معرفة أسرار قارئي الفنجان. مشيت كثيراً حتى وصلت بي السبل المتعددة، قبل المغيب، ناحية الشاطئ الممتد كبلعوم، حيث لا تهدأ أصوات النوارس، ولا تستريح زعانف الأسماك الصغيرة، ولا يمل الحالمون من مشاهدة لحظات الغروب، ولا يكل العابرون من مراقبة السفن العابرة.. وفي مكان قصي يجلس اثنان على طاولة، يتناولان طعاماً ويتحدثان بلغة شرقية، يطيلان الحديث.. ثم يمضيان.
وحين يسكن الليل، ويستدير القمر، ويهدأ البحر، يبدو الكون مشرقاً يبدد نور وجوده ظلام العدم، ويتكسّر ضوء البدر على صفحة الماء متجاهلاً موجات حائرات يتقافزن في محاولة يائسة لدفن الشعاع السحري القادم من الأعلى، وعلى الضفتين المزدحمتين بأشجار السرو، ترتسم ستة وثلاثون حجة على المباني العتيقة، وعلى جذوع الأشجار والنسمات والأمواج المتكسرة. هو ذاته المكان القديم المتخم بالذكريات. حيث الحروب البعيدة، التي تمت على ضفتيه، والحضارات والأمم التي تكالبت عليه، في صورة تنتصر فيها الحياة على الفناء، لتسقط فيها نزعة السيطرة البشرية على المكان الجميل، منذ مئات السنين وآلاف الأيام التي مرت. لم يعد مكاناً للتناحر والاقتتال والسيطرة، لقد أصبح مكاناً للمتعة والهدوء والمحبة والأحاديث الصادقة، التي توثقها العدسة أو يدونها القلم، في أرض لم تعد تقبل أن تكفّ عن الدوران.
وحين يمتزج الليل بالنهار، والقمر بالبحر، يمنحان إحساساً عميقاً بالحرية، ليتداخل جمال الإنسان بروعة المكان حتى ظهور الصباح، حيث تستيقظ المدينة، والمدن كوجوه النساء تتضح حقيقة تقاسيمها في الصباح. وابتسامات البشر أجمل ما تبدو في الصباح، فما أحلى الصباحات التي تُشعر الإنسان بعلو سقف الحرية من خلال العالم من حوله. أما الكتابة فهي بحد ذاتها حياة، تضفي على وجودنا وجوداً أسمى، وبها نستطيع التخلص من أفكارنا المؤرقة، لنختزل الحياة في ورقة؛ مما يعني أننا أحياء، وبإمكاننا استنشاق الهواء. نفعل ذلك فنستشعر أن الحياة جميلة وتستحق أن تعاش بكل لحظاتها. بالكتابة نستطيع التكيف مع مجمل الظروف. فهي تكاد أن تكون مصلاً مضاداً لضيق الأمكنة واختزال مجموعة قوس قزح إلى لونين.. تستطيع الكتابة أن تمتد حين تنحسر الفرص، وترتفع حين تدنو السقوف، وتبقى حين تتبدد الأحلام؛ فالحياة من دون قيمة المكان والزمان والإنسان تصبح لا شيء، سوى الكتابة.