في البدء وحتى لا يُحمل هذا المقال على محمل يُخالف سياقه فإن ما يهمني الفكرة لا شخوصها؛ فلستُ أبداً ضد محاكمة مبارك ولا نظامه، بل هذا ما يفترض أن يقوم به المصريون لبدء صفحة جديدة في مشروعهم القادم وبيدهم لا بيد غيرهم، ولكن في ذات الوقت يجب أن تكون هذه المحاكمة قائمة على ثقافة الإنسان المصري الديموقراطي الجديد، الذي يحكمه العدل بتطبيق معادلة المساواة والكرامة والحرية، لا العواطف واللغة الإنشائية التي تطغى كثيراً على الإعلام المصري بقنواته المختلفة، وهي لغة قائمة على الرغبة في الانتقام والإذلال، لغة تُعزز الكراهية وتنهض على التخوين لكل من أيد مبارك؟! هذه اللغة مخيفة فعلاً لأنها تعيد إنتاج التطرف وبناء صنم الدكتاتورية من جديد.

وأطرح هنا الأسئلة على الوعي العربي الذي يعيش أحداثاً متوترة خاصة في سورية وليبيا واليمن، ومن الممكن أن نشاهد قريبا أو بعيدا محاكمات مشابهة لرموزهم: هل كانت محاكمة مبارك ونظامه التي شاهدناها جميعاً على مختلف الفضائيات حقيقة ديموقراطية أم وهم؟! هل كانت دليلا على الديموقراطية التي ينتظرها المصريون أم بقايا دكتاتورية تقضي على مشروعهم الجديد الذي يقوم على التسامح أولاً والنظر للأمام ثانيا؟! السؤال الأهم: هل كانت المحاكمة بدافع النهضة لترسيخ المشروع الديموقراطي الذي يقوم على حرية التعبير والكرامة والمساواة خلال مشاهدة مبارك في ذلك القفص؟! أم ما شاهدناه دليل على تأسيس الديموقراطية ولكنها متطرفة، لكونها قائمة على ثقافة الانتقام والإذلال، وهي أولى معامل الهدم، فالانتقام باختصار يجعل القائمين عليه معزولين في الماضي للنبش فيه بحثاً عمن يعاقب، فتتلوث الأيدي بالدماء من جديد، ويشغلهم عن المستقبل لكتابة تاريخ جديد في تأسيس ذلك المشروع الإنساني المنتظر لمصر الشقيقة.

دعونا نعد للتاريخ قليلاً وما حصل في العراق وإن كانت حيثيات التغيير بين البلدين مختلفة، فالعراق جاءها التغيير من الخارج بينما جاء التغيير بيد المصريين من الداخل، ولكن أهداف كل منهما هو إقامة مشروع ديموقراطي يحقق للإنسان كرامته وحريته ومساواته بغيره.. لقد تم إعدام صدام أمام الملأ؛ بمحاكمة دفعت إليها أميركا بيد العراقيين، فهل رأينا العراق الذي كان يطمح أن يكون بعد صدام؟! هل رأينا الديموقراطية التي حلم بها العراقيون؟! العراق ما يزال على كف عفريت رغم مرور سنوات! تهدده التقسيمات المناطقية والطائفية، والسبب ببساطة أن محاكمة وإعدام صدام نهضت على ثقافة الانتقام والإذلال التي لم تنته لليوم في العراق، لا على ثقافة البناء الذي أول أسسه التسامح بتطبيق العدل والكرامة الإنسانية حتى للمجرمين أمثال صدام، ماذا حصل: مات صدام بعد إهانة شاهدناها جميعاً وليس أقلها مشاهدته وهو وسخ الملابس منكوش الشعر، وماذا كانت النتيجة؟! ما ترونه الآن في العراق! دكتاتورية تحكم دكتاتوريات برلمانية، وتعذيب في السجون مستمر وفضائح سياسية! وضاع المواطن العراقي بين تلك التكتلات الحزبية وضاع معها الإنسان الذي جاء المشروع الديموقراطي ليبنيه!

إن حضور مبارك وهو على سرير نقال مكسب لاستدرار العاطفة، فيما ظهور المصحف في يد نجله جمال جزء لا يتجزأ من درامية ذلك القفص، ولكن ماذا عن مشهد المحامين الذين تزاحموا بحثاً عن المايكروفون؟! ماذا عن صراخ القاضي على المحامين وماذا عن الذين لم يُسمح لهم بالحضور من المحامين بحسب ما قاله بعض زملائهم في قاعة المحكمة؟! وددت بصراحة ألا أرى تلك الفوضى وذلك الصراخ وتلك الخطابية في محاكمة رئيس دولة سابق ومعه ثلاثون سنة من تاريخ مصر! فهي محاكمة تاريخية في حياة مصر الجديدة وتستحق التحضير الذي يقوم به المصري الديموقراطي الجديد، وددت أن أرى محاكمة قائمة على الترتيب والتنسيق لا على الصراخ والإلحاح والانتقام، وددت ألا أرى مبارك في مشهد لا يقل عن مشهد صدام العراق من الإذلال لمجرد الإرضاء لرغبة الانتقام والتشفي! ليس لأنه لا يستحق ذلك، بل قد يكون فهو يتحمل ما أحدثته حكومته من فساد، ولكن لأن الديموقراطية الحقيقية هي التي تُعنى بكرامة الإنسان مهما كان هذا الإنسان بشعاً ومهما وصلت جرائمه وفساده حتى لو كان ممثلاً في مسرحية سياسية فاشلة، لأن الديموقراطية لا تحاكم النيات، فهل أرضى المصريين مشاهدتهم لمبارك بتلك الحالة! أم عصف بالشارع المصري ليقسمه إلى مؤيد ومعارض ويتطرف كل منهما تجاه الآخر إلى حد اشتباكات يتقاذفون فيها الحجارة كما أخبرتنا بها وسائل الإعلام! الأهم من ذلك ما نتائج هذه المحاكمة، هل ستطوي صفحة انتهت، أم ستفتح صفحات من الحجارة المتقاذفة بين المصريين؟! هل ما شاهدناه إعادة لإنتاج الثقافة العربية التي لا تراعي إلا "الأنا" وتنسى كثيرا "نحن"؛ ثقافة تغرق في الماضي الذي يمتلئ بالثأر، وتعد الدماء جزءاً لا يتجزأ من ثوراته الماضوية، وتنسى كثيرا المستقبل حين تركز على الانتقام، ولا تتدارك "العفو عند المقدرة"؟ والإعلام المصري على اختلاف قنواته يغرق في الماضي غاضبون منه، وأتمنى منهم أن يلتفتوا لصناعة الغد الذي يطمح له المواطنون المصريون وينتهوا من الماضي، فالثورة باسم الديموقراطية ليست مجرد عصا للانتقام والعقاب والإذلال، بل هي التي تثور ضد الانتقام والإذلال لتعزز كرامة الإنسان أيا كان.