قبل أشهر من الآن والعالم العربي يعيش حالة غليان لا يمكن معها معرفة ما سيحدث، أو التركيبة التي يمكن أن تنتج عن تلك الحالة في ظل المتغيرات الداخلية التي تأتي نتيجة تراكمات امتدت لسنوات من الصمت الناتج عن القمع والحجر على التعبير وحرية الرأي، أو المتغيرات الخارجية، خصوصا الإقليمية منها مع تعثر مخاضات التغيير.

ورغم أنّ رياح التغيير نجحت في إسقاط النظام في تونس في سابقة عربية هي الأولى التي يشهدها هذا القرن بل جيل بأكمله، وبعدها في مصر التي لم تتوقع أكثر التحليلات تطرفا أن تؤدي تلك الحركات الشبابية التي انطلقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى إسقاط نظام بوليسي هو الأقوى في محيطنا العربي.. رغم ذلك إلا أن القادم هو الأصعب في ظل الاختلاف على شكل الدولة الجديد، والمضي نحو الديموقراطية دون الالتفات إلى مطالب جماعات بعينها تريد استغلال مساحة الحرية المتاحة لفرض سيطرتها وتفصيل نظام على مقاسها و وفق رغباتها. فبعد أشهر من سقوط النظام في مصر مثلا يقف المجلس العسكري الحاكم عاجزا عن تلبية مطالب شباب الثورة الذين وجدوا آذانا صاغية هذه المرة فرفعوا الصوت عاليا بشكل يصعب معه الاستجابة لكل ما يقال دون إشراك الشعب بأكمله في صناعة القرار، مما جعل المجلس يبدو أكثر سخطا ويرفع بدوره نبرته الخطابية محذرا ومتوعدا جهات بعينها تقف وراء حالة الفوضى التي تمنعه - كما يقول - من الإسراع في نقل السلطة إلى حكومة منتخبة ستعاني هي الأخرى مطولا من ميدان التحرير.

لنعد بالذاكرة قليلا إلى الوراء.. لنتذكر تصريحات أقطاب جماعة الإخوان المسلمين مع انطلاقة الثورة في مصر حين قالوا إن ما يجري هو ثورة شبابية ليسوا من خطط لها أو يقف وراءها.. والآن يختلف المشهد، فالجماعة الأكثر تنظيما رغم سنوات الحظر أصبحت برموزها وشعاراتها الأكثر حضورا في ميدان التحرير مما أثار سخطا في صفوف المعتصمين وأحزاب المعارضة التقليدية، فهل هم من خطط لها في الأساس وجعلوا من حماس الشباب و رغبتهم في التغيير الواجهة في صراعهم مع النظام، عدوهم الأول؟ أم إنهم استفادوا من الانقسامات الحاصلة لسرقة نجاحات الثورة كونهم الأكثر تنظيماً؟ وفي الحالتين فإن ظهور شعارات كتلك التي رفعها ونادى بها الإخوان في ميدان التحرير أو ما حصل من اعتداء من قبل جماعات متشددة على مركز للشرطة في سيناء لا يبشر بخير في الوقت الذي يسعى فيه المصريون جميعا إلى بناء دولة مدنية يتساوى فيها الجميع.

في ليبيا لم تفلح جهود الأطلسي والمجتمع الدولي في التسريع في حل الأزمة أو حتى إحداث تغيير ينتهي بإسقاط النظام، فما زال العقيد القذافي متحصنا في طرابلس، ومازالت معارك الكر والفر التي يشنها الثوار عاجزة عن حسم المعركة رغم الوعود التي أطلقوها بأن الحسم سيكون خلال أيام، ويبدو أنهم مع الدعم الدولي المتواصل يعانون مشاكل وانقسامات داخلية، خصوصا في القيادات الميدانية، أدت في الأخير إلى اغتيال اللواء عبدالفتاح يونس الذي يلف الغموض ملابسات اغتياله.. نقطة أخرى، لماذا لم تنجح الضربات الجوية المتواصلة لحلف الأطلسي في القضاء على القدرة العسكرية للعقيد القذافي؟ ولماذا تكتفي الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بمنح المجلس الانتقالي في بنغازي ملايين معدودة من المليارات المملوكة للنظام السابق، رغم اعتراف تلك الدول بالمجلس كممثل شرعي و وحيد للشعب الليبي؟

المسألة أكثر تعقيداً في سورية، فمع ازدياد وتيرة التظاهرات وارتفاع سقف المطالب أصبح النظام عاجزا بدباباته عن إسكات الحناجر المطالبة بالتغيير، ومع إصراره على استخدام العنف بحجة مواجهة العصابات المسلحة يبدو الوضع أكثر دموية وينذر بالمزيد من العنف الذي لن يبقى مطولا خيار السلطة وحدها، في ظل صمت عربي مخز ترك المشهد للتجاذبات الإيرانية التركية.

وفي اليمن يبقى الرئيس صالح رغم حالته الصحية متمسكا بالسلطة، واضعا المبادرة الخليجية التي وقعت عليها المعارضة على الرف لأجلٍ غير مسمّى مما يفتح الباب واسعا لصوملة اليمن الذي يعاني في الأساس من أزمة اقتصادية خانقة، فيما تظل فلول القاعدة تجمع صفوفها وأصبحت مع تفرغ الآلة العسكرية لحماية النظام تحتل مدنا بأكملها وتنذر بالمزيد من العنف مما يفتح الباب واسعا أمام التدخلات الأميركية.

وبالحديث عن الصوملة، ونحن في الشهر الكريم، لماذا لم تطالب الجامعة العربية بتدخل دولي لحماية المدنيين من الحرب الأهلية في الصومال، وإنقاذ آلاف بل ملايين الأطفال من الموت جوعا كما فعلت من قبل في ليبيا ؟ وهل سيستجيب المجتمع الدولي لدعوة من هذا القبيل ؟ ولماذا لم تتحرك واشنطن وتضغط بثقلها وبدبلوماسيتها من أجل حل الأزمة الصومالية كما فعلت في إقليم دارفور، وجنوب السودان؟

أسئلة معلقة تكشف خللا واضحاً في المعايير الدولية فيما يتعلق بأزماتنا العربية. ومع أني لست من مروجي نظرية المؤامرة إلا أن ما يجري يدفعني للتفكير مجددا في هذا الموقف.

في الأخير أبارك للإخوة في جنوب السودان دولتهم الجديدة.. وبانتظار افتتاح أول سفارة إسرائيلية فيما كان يسمى سابقاً بالجنوب السوداني!