في حديثنا السابق انتهينا إلى أن مناقشة موضوع الانسحاب الأميركي من العراق لن تكون دقيقة ما لم يتم التعرف على القوى الفاعلة في العملية السياسية، ومصلحة كل منها في بقاء أو رحيل الجيش الأميركي من العراق. أوضحنا أيضاً أن قراءة خارطة القوى السياسية العراقية المرتبطة بالاحتلال تؤكد أن نظام إيران هو صانع معظم هذه القوى وموجه حركتها. ولذلك فإن قراءة مواقفها لن تكون دقيقة ما لم يتم التعرف على حقيقة الموقف الإيراني من الانسحاب الأميركي. فقد شاطرت إيران الأميركيين المسؤولية في إدارة احتلال العراق، وتأمين الاحتياجات البشرية للعملية السياسية التي دشنها المحتل. ودفعت بأتباعها للمشاركة في الحكومات الانتقالية التي شكلها بول برايمرز. وأسهمت ميليشيات المجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة في تدمير الدولة الوطنية العراقية، وشكلت العمود الفقري للجيش والأمن اللذين أسسا بعد الاحتلال.
انسحاب القوات الأميركية من العراق من المواضيع التي برزت بقوة في برنامج الرئيس الأميركي باراك أوباما، أثناء حملته الانتخابية للوصول إلى البيت الأبيض. وقد تضمن برنامجه الانتخابي وعداً بسحب قوات بلاده من العراق، وتركه لأهله ليقرروا مستقبل بلادهم بالطريقة التي يرونها. وفي حفل تنصيبه كرر أوباما وعده. وأوضح أن احتلال العراق كان اختياراً خاطئاً، أما أفغانستان فإن بلاده دخلت الحرب فيها مكرهة، لمواجهة إرهاب القاعدة. وفي وقت لاحق حدد الرئيس الأميركي نهاية هذا العام موعداً لانسحاب جميع القوات الأميركية من العراق.
في سياق قراءة الموقف الإيراني من موضوع الانسحاب، ينبغي التمييز بين الشعارات التي يطلقها الإعلام الإيراني، الداعية بالموت لأميركا، وبين موقف إيران الحقيقي الذي اتسم بالتنسيق مع الأميركيين منذ انتصار الثورة الإسلامية بنهاية السبعينيات، أثناء وجود الإمام الخميني بالمنفى في فرنسا. وتفعلت أكثر فأكثر بعد احتجاز أعضاء السفارة الأمريكية في العاصمة طهران، من قبل الحرس الثوري الإيراني. حينها كان التنافس مريراً بين الرئيس الأميركي الديموقراطي جيمي كارتر، ومرشح الجمهوريين رونالد ريجان الذي فاز بالرئاسة لدورتين متتاليتين. وقد كشفت الوثائق الأميركية لاحقاً عن اتفاق سري بين المرشح الجمهوري ريجان وحكومة الثورة الإسلامية، لتأجيل إطلاق سراح الأسرى الأميركيين ريثما تنتهي الانتخابات بفوزه. وتم الاتفاق بوساطة الحكومة الجزائرية.
وأثناء الحرب العراقية الإيرانية جرت فضيحة إيران جيت، كاشفة عن أكثر صور التنسيق كاريكاتورية بين إيران وإسرائيل والأميركان. وقد أفصحت التحقيقات التي جرت حول هذه الفضيحة، أن إيران تسلمت أسلحة أميركية بوساطة إسرائيلية، قدرت قيمتها بخمسة مليارات من الدولارات. ولم يعد سراً على أحد التعاون المتبادل بين إيران وإدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في أفغانستان، والدعم الإيراني للميليشيات الأفغانية التي انطلقت من غرب أفغانستان في مزار شريف.
إن تقديم مقاربة بين ما يحققه الإيرانيون من مكاسب وخسائر في حال رحيل الأميركيين من العراق وتبعة ذلك على أوضاع إيران المحلية والاقليمية والدولية، هو الذي يمكننا من تحقيق استشراف دقيق لموقفهم. فجدول الأرباح والخسائر الإيراني المرتبط بالانسحاب الأميركي هو البوصلة الدقيقة لمعرفة حقيقة الموقف الإيراني من مشروع الانسحاب.
لقد حقق الإيرانيون كثيراً من المغانم باحتلال الأميركيين لأرض السواد. فقد تخلصوا من نظام الرئيس صدام حسين، الخصم التاريخي العنيد، الذي خاضوا ضده حرباً ضروساً استمرت ثماني سنوات. بلغت خسائرهم فيها أكثر من مليون شخص بين قتيل وجريح. لقد نتج عن الاحتلال الأميركي إضعاف قوة العراق العسكرية والسياسية، وترجيح الكفة العسكرية الإيرانية.
لقد ضمن الإيرانيون باحتلال الأميركيين تحقيق احتلال "إيراني" مجاني غير مباشر للعراق. فقد سيطروا على جميع مرافق الدولة العراقية. وتؤكد تقارير سياسية موثوقة وجود مقرات أمنية واستخباراتية إيرانية في مناطق الجنوب العراقي، وسطو إيراني على نفط البصرة، واستيلاء بالكامل على بعض حقول الإنتاج في المناطق القريبة من الحدود العراقية - الإيرانية بدعوى تبعيتها.
كما كان من إيجابيات احتلال العراق، بالنسبة للإيرانيين، تأجيل المواجهة الغربية معهم حول الملف النووي. فتعقيدات احتلال العراق، واندلاع المقاومة الوطنية العراقية، وتشابك العلاقة بين مصالح إيران والإدارة الأميركية، حالت دون المواجهة مع إيران لتدمير منشآتها النووية. إن الانسحاب من العراق يعني تحرر الأميركيين من قوة ضغط الملف العراقي، بما يمكنهم من التفرغ لمواجهة إيران.
علاوة على ذلك، إن الوطنيين العراقيين واجهوا الاحتلال الأميركي بمقاومة ضارية، منذ سقوط بغداد، واستمرت مقاومتهم في خط تصاعدي حتى توقفت باتفاق الرئيس جورج بوش مع قيادات في منتصف 2006م. واستمرت المقاومة لاحقاً بوتائر أقل مما كانت عليه في الماضي. وطيلة فترة الاحتلال لم يتعرض الإيرانيون لضربات المقاومة العراقية، في الوقت الذي تمتعوا فيه بجني ثمار الاحتلال. بمعنى آخر، كان الأميركيون وحلفاؤهم يدفعون المغارم بينما تذهب المغانم للإيرانيين.
خروج القوات الأميركية من أرض السواد سيجعل الإيرانيين في مواجهة محتومة مع الشعب العراقي. فالإيرانيون لن يتركوا لشعب العراق الحرية في الإمساك بزمام مقاديره، ويضحوا بما غنموه من حضور سياسي وأمني واقتصادي وعسكري بعد مغادرة الأميركيين لبلاد ما بين النهرين. وسيجد المقاومون العراقيون أنفسهم في حرب لا مفر منها لكبح جماح التدخل الإيراني في شؤون بلادهم. هذا إضافة إلى ما هو متوقع من مواجهة بين أميركا وحلفائها في الغرب لحسم ملف إيران النووي.
وبالنسبة للأمريكيين، فرغم وعود الرئيس أوباما بالانسحاب من العراق هذا العام، لكن من الصعب تصور حدوث ذلك، خاصة مع استعار الأزمة الاقتصادية، وتصاعد الحاجة لنفط العراق. إن القراءة التاريخية للتواجد العسكري بالهند الصينية وكوريا والفلبين، تؤكد أن الأميركيين منذ دخولهم على المسرح الدولي بقوة بعد الحرب الكونية الثانية لم ينسحبوا باختيارهم من أي بلد تمكنوا من دخوله، وكانوا يرغمون دائما بقوة السلاح على الرحيل. جدية الرئيس الأمريكي باراك أوباما في تنفيذ وعوده بالانسحاب من العراق من عدمها ستكون موضوعاً للمناقشة والتحليل في حديث قادم بإذن الله.