أكبر ضربة وجهها دارون للوعي الأوروبي في عصره هي أنه أثبت من خلال نظريته في التطور أنه لا وجود لغائية يسير العالم وفقا لها، كل ما هنالك هو صراع من أجل البقاء يفوز به من لديه القدرة على التلاؤم مع الظروف الطبيعية المحيطة. هذه الصورة للعالم هزّت العقل والوجدان الأوروبي هزّة هائلة. فالإنسان، الذي طالما نُظر له أنه هدف هذا الكون وقيمته الأساسية أصبح جزءا من تطور الطبيعة ولا امتياز خاصا له.

أسقطت هذه النظرية، علميا على الأقل، كل المقولات الميتافيزيقية التي طالما تغذت عليها الأفكار والمذاهب الفلسفية والأخلاقية والكونية. في التنوير كان الإنسان هو هدف العالم الذي وجد من أجله وهو كائن يختلف عن غيره من الكائنات باعتبار كينونته الخاصة، العالم من أجله وهو مفارق في النوع لبقية الكائنات.

تمّ هزّ صورة الإنسان التي طالما سادت في عصور التسليم وعصور الشك الأولى. ما يطرح مع دارون واستمر إثباته العلمي بعد ذلك أن الإنسان وكل التنوع على الأرض هو نتيجة لعملية انتخاب تمت عبر التاريخ على الأرض. فرضت هذه النظرية التي لم ينقض أصلها بعد، تغييرا كبيرا في رؤية الإنسان لنفسه وللكون من حوله. الكم من المعارف التي سقطت بفعل هذه النظرية أحدث دفعة هائلة لمسيرة الشك في التاريخ. الشك الآن يطال الإنسان نفسه وينزع منه تميّزه الذي طالما تغنّى وحلم وعاش به. كما أن الكون الذي طالما اعتقد الإنسان أن قوى ما تحركه وتحدد تطوراته أصبح كونا مصمتا تحكمه قوانين طبيعية غير محددة ولا موجهة.

علميا تم إلغاء كل استثناء للإنسان من البحث البيولوجي والطبي، فلم يعد له امتياز خاص وهذا ما حقق حركة كبيرة لمزيد من الشك زعزع معرفة الإنسان لنفسه ولما حوله، مما أدى إلى تطورات لاحقة في البيولوجيا والطب نشهد اليوم إذهالها في البحث في الجينات البشرية.

فرويد من جهته أعلن التالي: إن ما يعلن عنه الإنسان ويعبّر عنه بشكل عقلاني وواضح ما هو إلا رأس جبل الجليد من الإنسان. أما الجبل فهو مخبوء ومغمور ومخفي. إن ما نعرفه عن الإنسان ليس سوى هذا الرأس فقط. إنه الوعي، أما الجزء الأكبر والأهم فهو اللاوعي. فقد طوّر فرويد في تحليله النفسي نموذجا لما يفترض أنه يشكّل أركان الشخصية، وهذه الأركان هي الـ"هو" الذي يمثل الجانب الغريزي، البيولوجي من الشخصية. والـ"أنا" وهو الركن الذي يدير مصالح الشخصية بكاملها ويحقق التوازنات بين الغريزة الحيوانية والقيم الإنسانية الاجتماعية التي يمثلها "الأنا الأعلى" الجزء الثالث من الشخصية والذي يمثل الجانب المثالي الذي يعطي الأحكام والأوامر والنواهي ويمثل المقياس للأحكام الأخلاقية والعقلية.

العلاقة بين هذه المكونات الثلاثة هي التي تنتج الشخصية الإنسانية. وبحسب فرويد فإن عملية الكبت التي تمارسها الأنا العليا على الأنا السفلى من أجل الوقوف في وجه رغباتها الغريزية تراكم الكثير من المشاعر والمواقف في الجانب غير المعلن عنه، اللاوعي من شخصياتنا. إنه تلك المشاعر من الحرمان والألم والرغبة.. التي منعناها من الخروج، إنها لا تختفي بل تتراكم وتشكل جزءا مهما وكبيرا من شخصيتنا يؤثر علينا هو اللاوعي. هذا التصور قدم إحراجا كبيرا للمذاهب المثالية والذاتية، فنظرياتها الأخلاقية تقوم على أن العقل لديه القدرة على التحكم في تصرفات الإنسان كما أن لديه القدرة على ردع الرغبات والأهواء. ولم يكن معلوما بعد أن هذه العملية، الصراع بين المثال والطبيعة الحيوانية، هو من يشكل الشخصية أكثر من غيره.

وصلنا هنا إلى مبرر أكبر للشك في المعرفة البشرية التي ظهرت هنا أنها تجاهلت جزءا أساسيا من التركيبة النفسية للإنسان. إنها لم تكن تعرف الإنسان بعد بشكل كامل. كان اكتشاف الإنسان لهذا الجزء الكبير من نفسه، اكتشافا علميا مبرهنا عليه سبب لديه هزّة كبيرة جعلت من عملية الشك أكثر لزوما وأشد ضرورة. وصل الشك هنا إلى نفس الإنسان، إلى تركيبته الداخلية، وصلت رسالة قوية تقول "أيها الإنسان إنك لم تعرف بعد نفسك معرفة يقينية فمن أين لك ادعاء اليقين!!".

مع ماركس علمنا أن الوعي السائد ما هو إلا وعي الفئة الاجتماعية المسيطرة. إنها الطبقة الاقتصادية التي تمتلك المال والسلطة والقوة التي توجه المعارف للجهة التي تحقق من خلالها مصالحها، فلنكن على حذر من هذه المعرفة ولا تخدعنا صورتها الخارجية. ومع دارون علمنا أن جزءا كبيرا من المعرفة التي امتلكناها عن الكون وعن الإنسان وعملية وجوده أصبح لا يمكن الدفاع عنه من منطق العلم، فالإنسان ليس سوى حلقة من تطور الكائنات الأخرى دون أي ادعاءات ما ورائية، كما أن مسيرة الكون إنما هي محكومة بمنطق بسيط هو منطق الانتخاب للملاءمة الطبيعية لا أكثر. ومع نيتشه علمنا أن الدعاوى الأخلاقية والعقلية حين نبحث عنها جينالوجيا، في أعماقها سنجد أنها نشأت في التاريخ وتطورت مع الوقت، فهي نسبية ولا يمكن ادعاء إطلاقها. ومع فرويد علمنا أيضا أننا لا نعرف من الإنسان إلا رأس الجبل، أما باقيه فاكتشفناه للتو. معرفتنا فقط تعبر عن هذا الرأس وتعجز عن التعبير عن باقي الجبل.

وبغض النظر عن ما لحق بهذه النظرية من نقد وتطوير وتفكيك إلا أنها مثلت أكبر الأطروحات في القرن التاسع عشر، وهي التي مهّدت للتطورات اللاحقة في القرن العشرين. لقد مرّ الشك هنا بمرحلة أعمق وأكبر، فهو يأخذ طريقه هنا إلى عمق المعرفة ذاتها. أصبح يتحرك الآن من خلال المناهج والبحوث العلمية ليكتشف مع هذه الحركة مستويات أخرى من المعارف ليتعمق مع هذه الاكتشافات منهج الشك، فالحلم الذي دار في خلد ديكارت، بتأسيس معرفة يقينية أصبح يبدو أصعب وأصعب مع مرور الوقت.