تابعت كغيري على صفحات الصحف السعودية تفاصيل الحادثة التي عرفت بوحش جدة المشتبه باغتصابه لعدد كبير من القاصرات بعد خطفهن من الأماكن العامة كالأسواق والمستشفيات وقصور الأفراح وغيرها على مدى ثلاث سنوات. حينما نُشر خبر إلقاء القبض على المتهم في البداية، كان يشير إلى ملف ادعاء شبه كامل بأدلة قطعية. فهناك لقطات كاميرات المراقبة المختلفة التي تظهره ممسكاً بأيدي الضحايا وهو يسوقهن بعيداً، وشهادات الضحايا اللاتي تعرفن عليه الواحدة تلو الأخرى، وهناك الشقة (مسرح الجريمة) التي كان يمارس فيها شذوذه معهن، والتي ذُكر في التقارير الصحفية أيضاً بأن أكثر من ضحية تعرفت عليها وعلى أثاثها (السجادة الحمراء وشاشة البلازما والشيشة) بدقة، ثم بعد أن نشرت بعض الصحف خبر تطابق فحص الحامض النووي له مع ذلك الذي وجد في أجساد الضحايا.. فماذا تبقى لإدانته بعد ذلك؟

كان المجتمع والرأي العام، بالاستناد إلى هذه التغطية الإعلامية، قد تجاوز تلقائياً مرحلة إثبات الجرم، وبات الكل ينتظر العقاب الرادع لهذه الجريمة التي هزت العروس، ومن يراجع المقالات التي كُتبت في هذا الصدد وقتها، يجد أنها تركز على أمرين: التساؤل عن كيف ولماذا حدثت هذه الجرائم؟ بالإضافة إلى كيفية تجنبها مستقبلاً، مطالبة في مجملها بتشديد الرقابة على الأطفال والعقوبة على من باتوا يظنونه "المتهم" حتى قبل توجيه التهمة له رسمياً.

وخلال فترة توقيفه، كان المشتبه به يرفض الحديث، ولجأت الصحافة لأسرته محاولة لمعرفة رأيهم في هذه المصيبة التي حلت به وبهم، فقرأنا مقابلات مع أمه وزوجته وبعض أفراد العائلة، وكلهم كانوا يقفون معه بثبات ويؤكدون ليس فقط براءته وإنما تعرضه لمكيدة من قبل والد إحدى المدعيات (الذي ينتقم بعرض ابنته)!، وأن لديهم أدلة البراءة هذه، وستكشف الأيام ذلك. كثيرون لم يأخذوا كلامهم على محمل الجد، باعتبارهم أهله، بل كان هناك نوع من الإشفاق عليهم من هذه الفضيحة الاجتماعية التي لا تُغتفر.

ثم شيئاً فشيئاً بدأت تظهر تقارير إعلامية جديدة غير متوقعة تتحدث عن ضعف الأدلة المسجلة في محاضر الشرطة ضد المشتبه به في هذه القضية وصولاً إلى تساقط بعضها بالكلية، ومنها عدم تطابق الحمض النووي المسجل في محاضر بعض الضحايا أو تواجده خارج المملكة في وقت حصول بعض الجرائم، وأنه ربما لن توجد قرائن كافية لدى الادعاء العام لإدانته. وقد أخرجه الادعاء العام مؤخراً من الحبس الانفرادي بعد حوالي ستين يوماً وسُمح بزيارته.

هذه التقارير الصحفية الأخيرة تقلب الأمور رأساً على عقب من كل النواحي، لجهة المشتبه به نفسه والذي يوشك أن يصير في نظر المجتمع هو الضحية بدل الجاني، وللضحايا وأهاليهن الذين ينتظرون القصاص ولم يتوقعوا هذه التطورات، وللمجتمع أيضاً، ويكشف بأن هناك مشكلة ما في التغطية الإعلامية وفي تعاطي الجهات الرسمية المسؤولة مع هذا الأمر إعلامياً.

وهذا يعني أيضاً بأن المجرم الحقيقي ـ في حال تبرئة المشتبه به الحالي ـ لا يزال حراً طليقاً، وهذا أمر مخيف للأهالي، فنحن الآن في الإجازة الصيفية ورمضان تحديداً، حيث يحلو السهر وتزدحم الأسواق والمراكز التجارية والملاهي والمطاعم وغيرها، مما يتيح فرصة ذهبية لتكرار هذه الأفعال الإجرامية، فهل بدأت الشرطة بالفعل في تعقب مشتبه به آخر؟

التغيير السريع في الموقف من المشتبه به حسبما قرأ الناس عنه في وسائل الإعلام، من وحش بتهمة كانت شبه ثابتة إلى التساؤل عما إذا كان رجلاً بريئاً وقع ضحية لتصفية حسابات مع رجل آخر ليس أمراً من السهل على المجتمع تقبله، مما سيضعف الثقة بالإعلام المحلي والأهم من ذلك في الآليات المتبعة من قبل بعض الأجهزة الأمنية. فبدأنا نقرأ ونسمع عن اعتراضات واستياءات بشأن هذه التطورات الأخيرة، وبصراحة من يلوم الناس بعد ذلك الكم الهائل من التغطيات المتضاربة، والتقارير التي يناقض بعضها بعضاً؟!

التغطية الإعلامية في هذه القضية بالذات كانت مرتبكة ومرتجلة، سواء في محاولة إثبات التهمة في الفترة الأولى أو في محاولة إقناعنا بعكس ذلك في الفترة الحالية. وهي تكشف عن ضعف في الإلمام بأدوات الصحافة الاستقصائية المهمة في قضايا كبرى تهم الرأي العام مثل هذه القضية. كما تكشف وجود قصور في كيفية التعاطي مع الإعلام والتعليق على القضايا بدقة وحرص أثناء سير التحقيق من قبل بعض الجهات الأمنية.

جرائم اغتصاب القاصرات طعنت المجتمع، والتغطية الإعلامية التي تروي سير التحقيقات زادت الجرح اتساعاً، والحقيقة والمصداقية كانتا أولى الضحايا، ولهذا فما يطلبه المجتمع الآن هو أن لا يغلق ملف القضية بشكل نهائي سواء بإطلاق سراح المشتبه به أو إدانته حتى يتم توضيح حقيقة ما حدث بالضبط هنا، وحتى يتم شرح الأسباب التي أدت إلى هذا التخبط، ليطمئن الناس على أعراضهم وأطفالهم، وليكون ذلك سبباً في سير الصحافة السعودية نحو مستوى أعلى من المهنية والاحترافية التي تجعلها ـ بحق ـ سلطة رابعة.