ظن الأكراد أنهم بمجرد أن يدخلوا في صفقة سياسية "استراتيجية" مع الأحزاب الشيعية في العراق؛ سوف يحققون بعض المكاسب القومية التي طالما سعوا في الحصول عليها من خلال الطرق التقليدية المعروفة "الصراع المسلح"، ولكن بمرور الوقت أدركوا أنهم كانوا مخطئين جدا، ليس لأنهم لم يحققوا أي شيء لصالح قضيتهم المركزية ولكنهم أحسوا أيضا أنهم تعرضوا لعملية خداع منظمة من قبل هذه الأحزاب والمجاميع الشيعية، ومن يقف وراءهم ويساندهم، واستغلوا أبشع استغلال للوصول إلى غاياتهم النهائية وهي التفرد بالحكم، ولم يكن من الصعب بعد أن أصبحوا سادة العراق الجدد بدون منازع والمتحكمين في زمامه أن يقلبوا ظهر المجن للأكراد ويتنكروا لهم، ويقفوا حجر عثرة في طريق تحقيق مطالبهم المشروعة، فأصبح الأكراد أمام ثلاثة خيارات لا رابع لها؛ إما أن يستمروا في علاقاتهم غير المتكافئة مع الشيعة ويظلوا يوهمون أنفسهم بأنهم شركاء حقيقيون في السلطة وهم ليسوا كذلك وإما أن يتجهوا - باعتبارهم الجزء الآخر من المكون السني في العراق - نحو الأحزاب السنية ويشكلوا معهم جبهة سياسية قوية تستطيع أن تواجه الهيمنة "الشيعية" على البلاد وتحد من سلطاتهم الواسعة، وهذا احتمال بعيد لا يمكن أن يتحقق - على الأقل في الوقت الراهن - بسبب الاختلاف الشديد في الخطاب والتوجه السياسي وكذلك لوجود كم هائل من القضايا والمشاكل التي ما زالت عالقة بينهم وتحتاج إلى الحل. والخيار الثالث هو أن يعلن الأكراد انفصالهم عن العراق ويشكلوا دولتهم المستقلة أسوة بجنوب السودان وكوسوفو، وبهذا تنتهي حقبة من الصراع العرقي المرير في العراق والمنطقة، وهذا أمر يصعب تحقيقه لأسباب أبرزها؛ أن السياسيين الأكراد أنفسهم يرفضون خيار الاستقلال عن العراق ويعتبرونه حلما من "أحلام الشعراء" لا يمكن تحقيقه على حد تعبير الرئيس جلال الطالباني، على الرغم من تصويت الناس على الانفصال عن العراق بنسبة أكثر من 90% في هامش الانتخابات التشريعية العامة التي جرت في البلاد عام 2005، والمفارقة أنه كلما زاد زعماء الأكراد من تأكيدهم على عراقية الأكراد والتصاقهم بالعراق في تصريحاتهم المتكررة، ازدادت الهوة بين الشعبين الكردي والعربي العراقي على أرض الواقع بسبب عامل اللغة، فالجيل الجديد من الأكراد الذي ولد بعد انسحاب السلطة المركزية من إقليم كردستان عام 1991 فقد اهتمامه باللغة العربية تماما ولم يعد يتكلم بها إلا على نطاق ضيق لا يعتد به، الأمر الذي كرس حالة الانفصال الثقافي والاجتماعي القائمة بين الإقليم وبغداد، وقد يأتي يوم يفرض "الواقع المنفصل" أحكامه على العراق المنقسم أصلا، وعلى دعاة الوحدة القسرية ممن يصرون على تجاهل الطبيعة المختلفة بين الشعبين؛ الكردي والعربي.
كان من الممكن بعد سقوط النظام البائد عام 2003 وتشكيل الدولة العراقية الجديدة، أن يشكل الأكراد مع "السنة" جبهة قوية واحدة لو أنهم تعاطفوا مع الوضع الجديد وساهموا في بناء العراق الديموقراطي التعددي وغيروا من أسلوبهم السياسي ولم يظهروا أنفسهم وكأنهم جزء من النظام السياسي السابق، يدافعون عنه ويقاتلون من أجل إعادته ثانية إلى سدة الحكم، وأمام إصرار السنة على مقاطعتهم للعملية السياسية، اضطر الأكراد إلى التعاون مع الأحزاب الشيعية، ونتج عن هذا التعاون؛ تشكيل مجلس الحكم وكتابة دستور ووضع آليات متطورة لبرلمان معاصر، ولم يمض كثير على إقامة المؤسسات الحكومية وتشكيل الدولة الجديدة، حتى شعر "السنة" بأنهم قد أخطؤوا وأن القطار سوف يفوتهم إن لم يلحقوا به، فشاركوا في العملية السياسية ولكن بنفس العقلية السياسية السابقة وبنفس الاتجاه المعتاد، وبمجرد نزولهم للساحة السياسية حتى بدؤوا بجملة من الانتقادات والاعتراضات؛ انتقدوا الدستور باعتباره القانون الأساسي للدولة وطالبوا بتغيير مواده الأساسية ورفضوا الفدرالية وسفهوا فكرة إنشاء أقاليم وأيدوا الحكم المركزي الشديد مع إعادة الهيمنة "العروبية" على البلاد، يعني باختصار إعادة كل شيء إلى سابق عهده "وكأنك يا أبو زيد ما غزيت".. ومن أشد ما عانى منه الأكراد بالإضافة إلى بعض هذه المطالب التعجيزية، وقوفهم بشدة بوجه الحلول المطروحة للمشاكل التاريخية العالقة بين الأكراد والعرب، ورفضهم القاطع إزالة ومعالجة آثار التعريب في المناطق الكردية وإرجاع الحقوق إلى أصحابها الشرعيين بذريعة الوطنية والحفاظ على وحدة الأراضي العراقية وأن العراق واحد لا يتجزأ وغيرها من الشعارات السياسية الرنانة التي انتهكت في ظلها حقوق الإنسان الكردي كثيرا.
إن إصرار السنة على هذا الموقف المتشدد من الأكراد كلف ويكلف العراق ثمنا باهظا من استقراره ووحدته وسيادته، ولا يدع لهم خيارا آخر غير أن يكملوا مشوارهم مع الأحزاب الشيعية ويساعدوهم على زيادة بسط نفوذهم وإنجاح مشروعهم الطائفي في المنطقة وليس في العراق فحسب، وفقا للقاعدة الشمشونية الذهبية "عليّ وعلى أعدائي".